احتياجات الأمّة في تغيير الأفكار والممارسات
يعيش واقعنا المجتمعي المحلي والوطني أزمات تضاهي في تحدياتها ما يحدث على المستوى الدولي والإقليمي، بل يعتبر أصعب وأعقد في المعالجة باعتبار أن المجتمع والممارسات التي تسود فيه والأفكار التي تقود نخبه هي الخلايا النائمة التي تنتج لنا واقعا متطرفا يصعب التعاطي معه، وما يحدث الآن في الأمة من إرهاب وتدمير ومعاناة تحارب الفطرة البشرية لهو نتاج لأزمة مجتمعية معقدة.
ويضاف إلى تحدي الأزمة المجتمعية وجود بيئة فاقدة للوعي متجذرة بالممارسات والفساد الجماعي تجعل من إيجاد الحلول ضربا من الخيال، ويقف وراء هذا المستحيل بالنسبة للإصلاحيين والوطنيين الصادقين أنظمة قائمة على الفساد والاستبداد، وهو ما يصعب من مهام أي فرد أو جماعة إصلاحية كانت في تحقيق أهداف الفكر النهضوي من جميع التيارات القائمة.
والذي يحتاجه المجتمع كخطوة أولى نحو نهضة حقيقية وتغيير حضاري يمس الأفكار والممارسات ينعكس بإيجابية تجاه الواقع المحلي والوطني والدولي، هو إصلاح الفرد وفق أعمال إستراتيجية مدروسة، تشخص المشاكل وتعرف التحديات وتقرأ واقعها بتأني وتخطط وتعمل بتفاني من أجل تحقيق أهدافها. فالمشاريع الإستراتيجية لتيار الوسطية والاعتدال والمؤثرة في القناعات والمطورة للسلوك والمهارات هي السبيل الوحيد لتهيئة بيئة مناسبة وقادرة على إحداث أي تغيير.
التيارات الفئوية القوية داخل المجتمع من أصحاب الوعي والفكر النهضوي والتعلق بالتاريخ الإسلامي الحضاري بمختلف علومه وثقافاته وفنونه، وشبكات واسعة من المؤسسات المحلية والوطنية التي يقودها رجال لديهم من الزاد التوعوي والنهضوي والفكري هي إحدى الحلول القليلة القادرة على صناعة تغيير هادئ وعميق والواجب العمل عليه على أمد متوسط وبعيد..
ولعل أهم خطوة حالية يجب أن نمنحها وقتا كافيا ونناضل من اجلها لدى العامة هي ترسيخ المشاريع الإستراتيجية في ذهن الأفراد والأجيال والتي تشتغل على المدى الطويل وتحقق لنا نتائج على المدى الاستراتيجي البعيد.
والعمل على تقوية التيارات الفئوية المتخصصة داخل المجتمع من شأنه أن يخلق قوة ونفوذا قويا لأصحاب المستوى العلمي والمهني في التأثير على توجهات المجتمع، فالطبيب الذي يعتبر حكيم مجتمعه لو عملت التيارات الإصلاحية على أعداده -بالإضافة إلى تفوقه الدراسي- قياديا ومهاراتيا واصوليا ومقاصديا وفي مختلف قضايا راهن وواقع الأمة سيمنح للمجتمع دفعة قوية في الإصلاح وتجنيب المجتمع الأزمات الفكرية التي تتحول فيما بعد إلى صراعات دولية تفوق في قدراتها وواقعها إمكانات الدول والتحالفات السياسية، وبمثال الطبيب يمكن قياس ذلك على أصحاب المناصب الإدارية العليا في مختلف هياكل الدولة، والمهندسين والاقتصاديين ورجال المال وكبار التجار في القطاع الخاص والدكاترة والباحثين في قطاع التربية والتعليم العالي. وبالتالي تصبح لنا شبكات واسعة من التيارات الفئوية القادرة على قيادة المجتمع نحو إصلاح حقيقي ونهضة شاملة منطلقها فكر وسطي معتدل راق تساهم في تطوير السلوك الجماعي لأفراد المجتمع الذي يصبو نحو التحضر والتمدن المنشود.
إن إعداد أجيال تلبي احتياجات الأمة فكريا وعلميا وفنيا وثقافيا يتطلب عملا ضخما بقدر الرؤية التي يجب أن تصبح عليها مكانة أمة الإسلام في النهاية التي لا ترضى سوى بريادة باقي الأمم، فالعمل الاستراتيجي أصبح مهما في تكوين شباب قادرين على صنع ملحمة التغيير الحضاري. وأحد أهم أركان الإعداد هو توفير البديل القيادي والمنافسة بين المؤسسات الرسالية الرائدة في المجتمع.
رؤية جديدة في بناء مجتمع التغيير.. المجتمع المغاربي أنموذجا
تشترك كل المستويات النخبوية، ومن مختلف القطاعات على التشخيص المبدئي لأعراض مرض الأمة الإسلامية العربية بشكل عام، ويتفق جميع المنظّرين، والمفكّرين ،والخبراء، وعلماء الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والتربية وعلم النفس، على أنّ المجتمع العربي بشكل خاص يعاني من فقدان البوصلة القيادية، وتشتت المراجع، وتعدّد المدراس على نحو سلبي ما أثّر بشكل مباشر على سلوكيات المجتمع، وبالتّالي على الرّغبة في تقدم وتطور وتنمية كلِّ البلاد العربية، سواءَ على المستوى الجماعي أو الفردي. وهذا ما يدعونا ويرغبنا في كتابة سلسلة مقالات حول إعداد حلول لبناء أجيال تقدّم الجديد، وتمهّد لإحداث تغيير مجتمعي حضاري، وهذا من خلال بناء الأفراد وتحضير طبقة قيادية بديلة.
إنّ ضرورة تقديم رؤية جديدة في صناعة أجيال قادرة على التأثير في مجتمعاتها يتطلب تكوينا متناسقا، يتلاءم وطبيعةَ وخصائصَ ذلك المجتمع، فالتعمق في النظريات، واستخدام التراث الإنساني العالمي، سواء بأرض المشرق أو المغرب، لهو المطلوب في تقديم مشاريع ميدانية لحلول الإشكاليات المجتمعية المختلفة، وإذا نظرنا إلى أدوات التبسيط والتيسير لتطبيق ما هو مدوّن ومكتوب من قبل العلماء والخبراء، نجد في غالب الأحيان ذلك التعارض والتنميط الذي ينفّر أكثر ممّا يرغّب، ويخوّف أكثر مما يحبّب بين فئة وأخرى، وهذا بارز بشكل واضح في عديد المدارس السياسية والتكتلات الإيديولوجية التي تتيح للمتابعين النظر بشكل حقيقي إلى جوهرها ورؤاها المستقبلية، وتفاعلاتها الداخلية والخارجية.
وإذا نظرنا إلى المجتمعات المغاربية التي تتميز بخصائص تختلف عن ميزات وطبائع مجتمعات المشرق العربي، فتأثيرات التراث الأندلسي لا زالت تحافظ على الفرق برغم المسافة الزمنية البعيدة، وتأثيرات الاحتلال الأوروبي مقارنة ببقية الدول العربية، كما أن السكان الأصليين لشمال إفريقيا لديهم من التاريخ القديم والمتغيرات الحضارية الكبرى والتراث الإنساني ما لا يوجد في أيّة منطقة أخرى. وبالتالي فإن لكلّ مجتمع خصائصَه وميزاتِه، وطبيعته، وجغرافيته، وتاريخه، وتراثه، ورجاله، و مستقبله وعاداتِهِ وتقاليدَه. وهذا لا يعني الانعزالية والتفرقة والابتعاد عن العوالم الأخرى، وإنّما يعني التكامل والتناغم، والسّيرورة الطبيعية لأي مجتمع وطني منسجم مع بعضه البعض، فالتقارب الثقافي و الحدوديّ للشعوب من شأنه إحداث نهضة حضارية شاملة فاعلة في طبيعة النظام الدولي.
ونلحظ في عصرنا هذا -الذي نعيش واقعه المر بأسف - امتداد الكثير من المشاريع إلى المغرب العربي، فكرا وممارسة وخطابا وسلوكا، في محاولة لنسخ التجربة المصرية أو التركية، أو السعودية، أو الإيرانية، وفرضها على واقع المجتمعات المغاربية سواء لفئة معينة من المجتمع، أو عبر كثير من الفئات، وهذا ما يعتبر تناقضا صارخا وصادما مع واقع وطبيعة الفرد المغاربي، وإهمال التّراث الإنساني والاجتهادي للكثير من المشاريع الفكرية والنقدية النهضوية السابقة، التي قادها مفكرون عظام من المغرب العربي الكبير، كالطاهر بن عاشور من تونس والعلامة عبد الحميد بن باديس والمفكر المعروف مالك بن نبي والمجتهدين علال الفاسي وطه جابر العلواني من المغرب.
ولعل من أبرز سمات القائد الناجح في أي مجتمع أو بيئة يحاول التأثير فيها وتحريكها نحو تحقيق أهداف إيجابية، وإقامة أثر بالغ معمق، هو إلمام ذلك القائد بحياة وتاريخ منطقته، ومعرفة تراثها ولهجاتها، ولغاتها، وعاداتها، وتقاليدها، والتعرف على سياحتها ومختلف ثقافاتها وفنونها، ومخالطة أبنائها وبناتها، ومعاشرة سكانها ومعرفة كل صغيرة وكبيرة، حتى يتمكن من إضافة أدوات وأساليب يستطيع بها إيصال فكرته، وإنجاح مشروعه الإصلاحي النهضوي. وهذا ما يجب أن يتوفر لدى القادة الشباب المغاربة، دون إهمال شمولية الدّين الإسلامي وعالميّة الفكرة، ووسطية واعتدال المدرسة والعلاقات التي تجلب المنفعة، والزيارات التي ترفع من شأن التجربة وتكسب المزيد من الخبرة.