عندما تحالف حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن أيوب "الملقب بأبي الخيش" مع الفرنجة الصليبيين على ابن أخيه نجم الدين أيوب حاكم مصر، وكرّر خيانة أبيه الملك العادل، وتنازل للعدوّ عن مدينة صيدا، وسلّم القلاع الحربية، وأباح للفرنجة دخول دمشق؛ وفتح لهم المجال لشراء السلاح والمؤن منها متى شاؤوا، وقتل من الأمراء والقادة من يرفض الخنوع ... مقابل دعمهم له-كان الشيخ الإمام العز ابن عبد السلام السلميّ خطيباً في الجامع الأموي، ومفتياً للشافعية، فصعد العز على المنبر يوم الجمعة، وأفتى بحرمة البيع والشراء مع الصليبين ، وأنكر على الملك الصالح إسماعيل جريمتَه، وقبّح خيانتَه، وترك الدعاء لوليّ الأمر كما اعتادت الخطباء، وجهر بدلاً من ذلك بالدعاء المشهور إلى اليوم في خطب الجمعة:
اللهم أبرِم لهذه الأمَّة أمْرَ رشدٍ يُعزّ فيه أهل طاعتك، ويُذلّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
وقطعُ الدعاء في الخطبة للسلطان يعني خلع هذا السلطان وعدم الاعتراف بشرعية ملكه؛ فاستشاط الصالح إسماعيل غضباً، وعزل الشيخ العز عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله وإخراجه بعيداً عن الشام، وحجزه بمدينة نابلس تمهيداً لطرده إلى مصر، فغضب الناس لذلك غضباً شديداً، وخرجوا إلى الشوارع ثائرين غاضبين، وقتلوا كلَّ من رأوه من الصليبيين بدمشق، فخشي الملك أن يهجم الناس على السجن، ويخرجوا الشيخ، مما اضطر الملك بنصيحة وزيره أن يأمر بإعادة امتيازات الشيخ ومناصبه إليه بشرط تقبيل يد الملك وإظهار خضوعه له أمام الناس، فقال الشيخ لرسول الملك الذي أتاه وهو في حجز الترحيل بنابلس:
يا مسكين! ما أرضاه أن يُقَبِّلَ يدِي فضلاً أن أقبّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فأمر السلطان بإنفاذ قرار نفيه من الشام كلها ليستريح منه؛ وكان معه شيخ المالكية أبو عمرو الحاجب وكان مثله في الثبات، فتوجها إلى مصر، وعاد الشيخ إلى منابر الصدع بالحق وأصبح شيخاً لجامع عمرو بن العاص، وأدار هناك فصلاً جديداً من فصول العزّة.
وكانت آخرة الملك الصالح الباطش أن اعتقله خصومه، وخنقوه خنق الجوَاد.
فماذا يمنع مشايخنا الأجلّاء أن يعيدوا أمجاد مناصبهم، ولا يتابعوا سلاطين السوء، ويفعلوا مثل الإمام العزّ الذي لا يكفّون عن تمجيده وذكرِ مآثره كلما أرادوا أن يرفعوا من شأن العلماء وعزّتهم؟