"لماذا جباليا؟" قد لا يدرك كثير من الناس الإجابة على هذا السؤال الآن ولا يدركون خطورته بالتفصيل. سأجيب عنه في هذا المقال حتى نكون كلنا في سياق اللحظة التاريخية.
لما نتحدث عن المشروع الصهيوأمريكي التوسعي في منطقة الشرق الأوسط، فإن غزة بالتحديد هي الشوكة الأكثر إيلامًا في هذا المشروع ككل، وصمودها هو الذي يضاعف كلفة دولة الاحتلال ويؤخر المشروع، بل يعرضه للخطر الوجودي. فالسؤال الذي كان مطروحًا قبل السابع من أكتوبر: كيف يمكن تجاوز غزة إلى ما بعدها؟ أو كيف نحمي ظهرنا من غزة حين نبدأ في تصفية الضفة؟ ولم تكن مطلقًا فكرة أن تبادر غزة بالهجوم مطروحة، فالقوم يخططون على أساس أنه تم تحييدها إلا من بعض الرشقات الصاروخية التي قد نجد لها حلًا بالاعتراضات أولًا وبالاجتياح المحدود ثانيًا... لكن لب المشروع كان في الضفة.
لما انطلق الطوفان، اختلطت كل أوراق الكيان وأصابه الشلل تمامًا وانقلبت المعادلة، واستدعى الأمر قيادة أمريكية مباشرة لترميم ما يمكن ترميمه. لكن تم الاستعاضة عن الضفة بغزة، وتحول مشروع تهجير أهل الضفة أولًا إلى تهجير أهل غزة أولًا.
وبالنظر إلى الخريطة في جغرافيا غزة؛ لا يمكن أن يكون التهجير في خطوته الأولى إلا من الشمال إلى الوسط أو الجنوب، إذ لا يمكن أن يكون من الشرق نحو البحر غربًا، ولا يمكن أن يكون من الجنوب نحو الحدود الزائلة شمالًا... فليس هناك أي مخرج لتهجير أهل غزة في الخطة البديلة إلا تهجير سكان الشمال.
الأمر ليس بتلك البساطة، فلقد استدعى مواجهة عنيفة مع المقاومة في الشمال ومحاولة تحييدها حتى يتم التهجير بيسر وسهولة. فاكتشف الكيان أن القصف والعمليات النوعية خلف الخطوط الشرقية لحدوده تأتيه من كافة الحدود مع القطاع وليس من الشمال فقط... بل يمكن لصواريخ خانيونس الوصول إلى ما هو أبعد من تل أبيب.
فكان لا بد من تأجيل الحديث عن التهجير والدخول في حرب مفتوحة مع كافة الكتائب لتحييد القصف الصاروخي بالكلية، ثم عزل الشمال عن بقية القطاع بمحور نيتساريم، والانطلاق في مشروع التهجير القسري بالقتل العشوائي عقابًا لأهل الشمال، الذين بصمودهم صمدت المقاومة في الشمال، وبصمود المقاومة في الشمال صمدت كل غزة في وجه المخطط الصهيوني بتهجيرهم جميعًا إلى خارج القطاع، ومن ثم التفرغ للضفة... ولبنان.
اليوم، هذا العنف المنفلت هو الغضب الصهيوني المنفلت الذي يشعر بأن كل مخططاته متوقفة على صمود أهل الشمال. وصمودهم الأسطوري هناك فيه دفاع عن غزة، وعن فلسطين، وعن الأردن، وعن مصر، وبالطبع عن بقية العالم حتى لا تقوم حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر.
لقد قلت من أول أيام الحرب: إن أطهر مكان على وجه الأرض اليوم هو بيت حانون، والعطاطرة، وبيت لاهيا، وجباليا، وكل شمال القطاع.
لكن جباليا بمخيمها ومعسكرها، وبجباليا البلد، هي القلب النابض في الشمال ككل من حيث التاريخ الخرافي، ومن حيث عدد السكان، ومن حيث الكتلة الأكثر تمسكًا بالأرض ووعيًا بطبيعة الصراع ومآلاته على القطاع وفلسطين والعرب والمسلمين والبشرية جمعاء.
أيها الناس، إن دعم صمود أهل الشمال وجباليا بالتحديد مهمة أقدس من كل العبادات اليوم، وأنبل من كل الأخلاق، وأطهر من كل الطهر، وأوجب من كل الواجبات...ليس لأن فيها أناسًا يموتون بالتقتيل والتهجير القسري، بل لأنها حائط صد... إذا انهَدّ سيجرف معه دماء بالملايين. فهل من مُعتبر؟