أذكر تفاصيل ذلك اليوم بدقة، لا أنسى تلك الفرحة في عينيّها وصوت تصفيقها المتكرر، لازلت أسمعه، لقد كان أجمل أيام حياتها عندما أخبرها مدير العمل أنه بإمكانها استلام وظيفتها في صباح الغد، فهي بذلك ستصافح أخيرًا حلمها الذي انتظرته طويلا، ورافقها منذ أن كانت في الرابعة عشر من عمرها.
لقد أخبرتني "علياء" كثيرًا عن تلك الليلة التي تسبق تسلمها لذاك المقعد الشاغر في إحدى المؤسسات، حتى بت أحفظ تفاصيلها، قالت بأنها لم تستطع النوم وتقّلبت في فراشها كثيرًا وبدت لها عقارب الساعة واقفة لا تتحرك، وكأن الليل أسدل ستاره للأبد.
لم يكن يقطع ظلام غرفتها، سوى وميض هاتفها المحمول الذي أمسكته عدة مرات لتتأكد من ضبطها لساعة المنبه، قالت لي إنها كانت تبتسم طوال الليل لأحلامها الوردية وتتخيل نفسها تحقق كل ما ترغب به، حتى حلّ عليها ذاك الصباح المنشود، أعرف "علياء" جيدًا، لا تبحث عن المال بالمطلق، إنها تبحث عن "النجاح" وفقط، إنها كـ "الأسد الجائع للنجاح".
طلبت مني في أول أيام عملها أن ألتقيها بعد انتهاء الدوام، وفعلت، كان شغفها يعلو قسمات وجهها وبريق الفرح يلمع في عينيها السوداوين، استمعت لها مبتسمة بعد أن جلسنا على مقعد في إحدى المتنزهات العامة، قالت "كان يومًا رااائعًا، لقد بدأت رسالتي في الحياة وسأحقق ذاتي وكينونتي وسأغير في مجال عملي الأمور السلبية إلى إيجابية وسأخدم بلدي".
علمت من "علياء" فيما بعدّ، أنها حظيت بـ "ثناء" متكرر من رب العمل على إتقانها لمهامها رغم أنها تخرجت حديثًا ولم يمضِ على توليها لوظيفتها سوى عدة أيام، أذكر تلك الفترة، لقد كانت السعادة تغمرها وبشدة، فلا أجمل من مصافحة النجاح والشعور بقيمة "الذات".
وبعد رحيل كل يوم، كان حماسها يتقد أكثر كلما قيّمت نفسها ووجدت أنها حققت نجاحًا آخر واكتسبت خبرة ومعلومات جديدة، لقد كانت تردد دومًا في نفسها تلك القاعدة "خُلقت لأصنع شيئًا يذكر، لن أكون كـ الملايين الذي يأتون ويرحلون بصمت، لن أدفن نفسي وأنا على قيد الحياة"، وبعد أقل من عام حصلت على ترقية وظيفية، لقد كانت مثالا جيدًا للاقتداء.
ومع مرور الأيام قدر الله لها أن تجتمع عليها النوائب مرة واحدة، فالبداية كانت أن جاورت في غرفتها زميلة ترفع من "تثبيط الآخرين" شعارًا لها وتُحطم أفكارها وأحلامها، برسائل سلبية تنفثها لها في كل يوم، وفي إحدى المرات ارتكبت خطأ فادحًا كاد يلغي سجل نجاحها وأُضيف إلى ذلك مشكلة أخرى في المنزل.
ودون ادراك منها بدأت تستسلم "علياء" لتلك السلبيات من حوالها، وتسلل الخوف والتردد إلى عقلها الباطن وأصبح بالنسبة لها عادات، فكلما حاولت صنع شيء جديد خرج لها صوت داخلي: "لقد فشلت سابقًا لا تفعليها مجددًا، لا تطوري عملك لن تنجحي، لقد أصبحت فاشلة، قائمة أحلامك لن تتحقق، الظروف غير ملائمة، هناك من هو أكثر جرأة وقوة منك"، توالى فلشها واتخذت من تلك الرسائل الداخلية نهجًا لحياتها وأصبحت إنسانة "عادية"، بعد أن كانت مميزة وطموحة.
غادرتها لأجل سفر وعدّت بعد ثلاث سنوات، لم أكدْ أعرفها، لقد خَبا بريق النجاح من عينيها، كانت حياتها روتينا يوميا قاتلا، تتجه للعمل صباحا تقضي ساعاته على مضض، فهي في نهاية الأمر تحتاج للمال بعد أن كان آخر اهتماماتها.
في البيت حديث مع العائلة، مشاهدة تلفاز إلى أن يحين موعد نومها، وهكذا مرّت سنواتها واحدة تلو الأخرى، لقد تملكها الاحباط واليأس، نسيت هذه الـ "علياء" نفسها وأحلامها ولم تتطور طيلة تلك الفترة، اكتفت بأداء عملها بأدنى درجات الجودة، توقفت عن تطوير ذاتها وعن الاستماع لنفسها وتخلّت عن أحلامها وعادات نجاحها، فلم تعد تصافح تلك المكتبة الصغيرة في غرفتها في ليل كل يوم، لتطور قدراتها العقلية ولم تطور من مهاراتها، سرقت "حلم حياتها" وقتلته، بأن تصبح رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات، واستسلمت لـ "لاءات كبيرة" أشهرتها لنفسها "لا تفعلي لن تنجحي، إن فكرت في التطوير ستخسرين عملك، من أين ستحصلين على المال، هناك من هو أكفأ منك، و...".
عندما عدّت من سفري، طلبت مني نصيحة فقلت:" أخبريني ماذا بشأن ذلك الدفتر الصغير، هل ما زلت تدونين فيه مهامك اليومية قبل الخلود للنوم؟"، أجابت: "لا"، "حسنًا، ماذا عن الدورات التدريبة ومشاهدة مقاطع الفيديو التحفيزية؟"، أجابت: "لقد كنت أشاهدها بشكل دوري، لكن توقفت عن ذلك منذ مدة"، "هل الورقة التي دونت عليها حلمك ما زلت ملصقة فوق سريرك، لتتذكري حلمك في كل لحظة كما كنت تقولين؟"، "لا أعرف أين وضعتها، لقد أعدنا طلاء المنزل ولم أهتم بإعادة إلصاقها"، "هل تقيّدين أعمالك بمدّة زمينة؟"، "لا"، "وماذا عن وعن وعن ..."، كانت كل الاجابات بالنفي، فقلت: "علياء لقد سرقت أحلامك وسلبتها الحياة".
معظمنا للأسف يعيش حياته داخل عباءة الخوف من الفشل ومن البدايات الجديدة أو التغيير، ويبقى أسيرًا لحياة يعيشها منذ سنوات بذات الروتين، ويتخلى عن أحلامه مع أول عقبة يصطدم بها ويستمع لكل محاربي النجاح من حوله.
لا تكن أنت من يسرق حلمك بخوفك وترددك وعدم ثقة بنفسك، هي حياة واحدة التي ستعيش، لما لا تسلك طريق التميز وتحقق ما تحلم به، فأنت تستطيع فعلها، فقط لا تستهين بنفسك ولا تشكك في قدراتك، إن لم تحقق حلمك أنت، سيأتي غيرك ويفعلها وسيذيع صيته وأنت سيتملكك الندم والحسرة حينها، وتقول: "يا الله أنا من كان يجب أن يفعلها".
عليك أن تؤمن بشيء واحد فقط "أنك تستطيع" فعل ما تريد، أتفق معك بأنّ الأمر ليس سهلا، ولكن حلمك ليس مستحيلا أيضًا، فقط لا تقل: "لا أستطيع" "لن أنجح"، "أنا ضعيف"، لا تكن أنت عدو نفسك.
ولا يهم كم حاولت وكم فشلت، ففي النهاية ستصل إن آمنت بحلمك حقًا وسعيت خلفه، فقط ثق بذلك فأنت دومًا تستحق الأفضل، وما الحياة إلا "حلم جميل يجب أن يحقق".