(كيف تحكُم الشعوبُ نفسَها بنفسِها؟)
ضرب الجزائريون، على طول الجزائر وعرضها، مثلًا لسائر الشعوب، حين خرجت ملايينُ منهم إلى الشوارع والساحات يرفضون استمرار النهج الذي تنتهجه عُصَب السلطة منذ سنوات ليست بالقليلة، ملتزمِين في حراكهم هذا اجتنابَ كلّ ما مِن شأنه أن يَبعث على العنف، حذِرين مِن أن يتمَّ فضُّ جموعهم بحلول وهميّةٍ خادعة ليس فيها إلا تغيير الأسماء وتكوين اللجان الزائفة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
وقام على هذا الحراك طائفةٌ ممّن آتاهم الله علمًا بطبائع الممارسة السياسية لعُصَب السلطة والمعارضة في الجزائر، وصدقًا في طلب الخيرِ لجموع الشعب، وحِرصًا على تبصيرِه بما خبَروه من قبلُ من ضروب حَرْفِ الحركات والثورات عن مساراتها، واستنزاف طاقاتها في قضايا تُستحدَث للحفاظ على أُسُس النظام الحاكم أن تُقوَّض، ومصالحِه أن تُمَسّ.. فشدّ هؤلاء الصادقون انتباهَهم في ملاحظةِ ما يُحاكُ للحَراك من كلّ جانب، وصرفوا جهدَهم وأوقاتِهم في نقل ما يرونه، من محاولات تضليل الحراك وخداعه، إلى عموم الشعب حتى لا ينخدع، وظلّوا يذكرونهم ألا يسمحُوا لأحد أن يركب موجة هُم بعثوها، وألا يسلّموا قيادَهم إلى طالبِ قيادة، فردًا كان أو مجموعة، ووعى الشعب هذه النصائح الصادقة، فلا يزال يحوطُ حراكَه أن يتسوّره مدّعي قيادة من المعارضة المعروفة أو من غيرِها.
لقد نجح الشعبُ -إلى حين كتابة هذه الكلمات- في هذا كلّه، لكنّه يشعُر شعورًا واضحًا أنّه لم يُدرِك هدفَه بعد، وأنّ عليه أن يواصل المسير من دون أخطاء تُودي بكلّ ما فعله إلى الآن، حتى يبلغ الهدف المنشود، فما هو هذا الهدف يا ترى؟
أثنى بعض المتابعين على الحَراك الجزائريّ الحاليّ الذي انطلق يوم الجمعة 22 فبراير 2019، بأنّه قام على مطالبَ سياسيّة حقيقيّة، فلم يكُن احتجاجًا على ارتفاع أسعار أو تقليصٍ في التوظيف أو تراجُعٍ في السياسات الاجتماعية وما كان من هذا القبيل، إنّما أصاب -بحسب هؤلاء المتابعين- مَكْمَن الداء حين جعل نصبَ عينيه تنظيف الساحة السياسيّة باقتلاع جذور عصابات الفساد ذات الأذرع الطويلة في الحُكم.
والحقيقةُ أنّ هذا أمرٌ استهدفته شعوب عربية أخرى قبلَ بضع سنوات في ما عُرف بالربيع العربيّ، ولخّصوه في عبارة "إسقاط النظام" التي لم تخلُ من رفعها ساحاتُ الجزائر في هذا الحراك، وإن كانت تعبّر عنها معظمَ الأحيان بكلمات أخرى مثل "يتنحّاو قاع" (يُزالُون جميعُهم)، "جينا نّحّيوْ العِصابة" (جئنا نُزيل العصابة -أي العصابة الحاكمة فعلًا-).
نعم، لقد كانت الشعارات الأكثر شيوعًا في البداية تحوم حول رفض ترشُّح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، وكان هذا الدافع الأبرز لاندلاع الحراك، غير أنّ الهدف الأبعد الذي يستمسك به الشعب -بعد أن أُعلِن رسميا عدمُ ترشّح بوتفليقة ولو مع تأجيل الانتخابات- هو تنظيف الجزائر من "العصابة الحاكمة"، وهو تعبير عن "النظام الحاكم" له دلالتُه.
الهدفُ إذًا سياسيٌّ بكلّ وضوح، بغض النظر عن الوسيلة التي يتصوّر الشعب أنّها ستؤدّي إليه، والتي لا يزال يلفّها الكثير من الغموض. فقد سعت بعض الشخصيات المعارِضة في البداية إلى الترشُّح للرئاسيات، وكانت رؤية من يدعمُها أنّه إن يصل شخص مناسب إلى كرسيّ الرئاسة فإنّه سيشرعُ في حملة تنظيف للساحة السياسية مِن عَلٍ، لِمَا تتميّز به مؤسسة الرئاسة من سلطات واسعة في النظام السياسي الجزائري، من الناحية الدستورية على الأقلّ. وهذا تصوُّر لا يبدو أنه استفاد شيئًا من درس التاريخ السياسيّ الجزائريّ (والعربيّ عمومًا) المعاصر. والحقُّ يُقال، ليس كلّ الجزائريين كانوا يقتنعون بهذا التصوُّر.
تنامى في الساحة الجزائرية تصور أوسع انتشارًا على ما يبدو، وذلك بعد أن ظهرت أمارات تخبُّط الجماعة الحاكمة في تصريحاتها وقراراتها وتعامُلها مع الأحداث عمومًا، ومفاد هذا التصوُّر أن الطريق الصحيح التي يجب على الشعب أن يسلكه هو الاستمرار في الضغط الشعبيّ من خلال الاحتجاجات الأسبوعية وخلال الأسبوع، وعدم القبول بتمثيل له من أيّ طرف؛ حتّى تتنحّى العصابة. ولا نستطيع أن ننكر أنّ السائرين في هذا المسار أصدقُ في التعبير عن مطالب الشعب وخوفه من سرقة جهده، غير أنّه ما من أحد -في حدود علمي- استطاع أن يجعلَ هذا التصور معقولًا، بأن يبيّن آليات تحوّل احتجاجات واسعة (أو حتّى عصيانٍ مدنيّ محتملٍ لاحقًا) إلى تنحٍّ للجماعة الحاكمة ومراحل ذلك في ظل طبيعة الاقتصاد الجزائريّ، مع أخذ الحيطة والحذر من الضغط والتدخّل الأجنبيَّيْن على ضوء طبيعة العلاقات الجزائرية الخارجية الراهنة، وأهمُّ من ذلك كلّه الانتباه إلى خطورة خُلُوّ المجال السياسيّ في ظلّ ميوعة اجتماعيّة يدلّ عليها غياب المرجعيات الأيديولوجية والرؤى السياسية والحركات الاجتماعية التي تستطيع أن تسيّر ولو بالدرجةِ الدنيا التي تحفظُ البَلَد من فوضى تندفع بطبيعتِها إلى التصاعُد.
وربما يُسمح لنا أن نقول إنّ كثيرًا من الجزائريين الصادقين شغلهم هَمُّ حفظ الحراك من أن يتسلّل إليه من يسرق مجهوداتِه، عن أن يتفكّروا في خطواته التالية التي يجب أن يسلكها ليصِل إلى أهدافِه. ويا ليتَ المشكلةَ كانت محصورةً في هذا! إذًا لهان الخطبُ، ولكان تنبيهُ هؤلاء الصادقين إلى هذا وتقسيمُهم العملَ فيما بينهم كافيًا لتجاوُزها، ولكنّ المشكلة أعمقُ من ذلك.
من أجل أن نفهم المُشكلة ثمّ نخطو صوب إيجاد الحلول لها يجب علينا أن نعزم على أن يكون تحليلُنا لموضوعنا تحليلا منهجيًّا صادقًا، لا تُخفي فيه المصطلحاتُ المفاهيم، ولا المفاهيمُ الحقائق، بل كلّ مفهومٍ نفكّر من خلالِه تعبيرًا عن ظاهرة واقعية مفهومة أو فكرة منطقية لا لبس فيها، وأن تعكسَ المصطلحاتُ التي نستعملُها في نقاشاتنا تلك المفاهيمَ في أذهاننا بوضوح.
قُلنا قبل قليل إنّ أهداف الشعب الجزائريّ في حراكِه هذا هي أهداف سياسيّة، تُمثّلها مطالب سياسية بطبيعة الحال، أي أنّ هذا الشعبَ الكريم يسعى إلى تغيير أوضاعه في مجال السياسة، وهذا مطمح لا غبار عليه. لكن من أجل أن يكون تحليلُنا منهجيا صادقًا يمكن أن تنبنيَ عليه قراراتٌ مُصيبة في الواقع، علينا أن نسأل أنفُسَنا: لماذا اختار الشعب مجال السياسة ليغيّره؟ وسيأتي قبل هذا منطقيًّا سؤالٌ جوهريّ: ما هي السياسة؟
يضل كثيرون من جامعيّينا، أساتذةً وطلّابًا، وهم يبحثون عن معنى للسياسة يرضونَه، فلا يزدادُ أكثرُهم إلا تيهًا. لذا سنجتنب هنا التعريفات والتصوّرات المختلفة التي يشغل الأكاديميون أنفسهم بها، وننطلقُ من تصوُّرِ عامّة الناس للسياسة، لأنّنا معنيّون هنا بحِراك عامّة الناس هؤلاء.
أحسِب أنه يمكننا أن نقول إنّ السياسة التي يتمثّلها الوعي الجمعيّ العامّ، في بلادنا العربيّة والإسلامية على الأقلّ، هي مجموع الأفعال التي تتعلّق بالمؤسسات الرسمية وشبه الرسميّة في كلّ دولة، وصِفة الرسميّة هنا تُكتسبُ من الدولةِ باعتبارها سلطةً ذات سيادة. وبعبارة أيسر: تتمثّل المؤسسات الرسميّة في مؤسسات الدولة المختلفة مثل الدستور والرئاسة والحكومة والبرلمان، وتتمثّل المؤسسات شبه الرسمية أساسًا في الكيانات ذات العلاقة بالسلطة الرسمية مثل الأحزاب السياسية المشروعة (علاقة تكامل وتدافع) وجماعات الضغط من لوبيات المال والحركات الانفصالية والأحزاب غير المشروعة -مثلًا لا حصرًا- (علاقات مصالحَ وصراع).
هذا من ناحيةِ فواعل السياسة كما يفهمها عموم الناس، أمّا المعيار الأساس الذي يميّز بين مجال السياسة وغيرِه فهو صفة "الشرعيّة" (Legitimacy, Légitimité). تبدأ السياسةُ -في رأي العامّة ومُعظمِ المتخصصين- حيث توجد مؤسسات تتصف بالشرعيّة أو يفترض أنّها تتصف بها (وهذا يميّز المؤسسات الرسمية)، أو حيثُ يوجد صراع على هذه الشرعيّة ومحاولة لإعادة تشكيلِها (وهذا يميّز المؤسسات غير الرسمية في علاقتها بالمؤسسات الرسمية).
عند هذه النقطة من التحليل يمكن أن نقول إنّ حراك الجزائر وانتفاضة السودان مِن قَبلِه، وقبل ذلك ثورات ما عُرف بالربيع العربيّ، كلّها تمثّل محاولاتٍ لإعادة بناء شرعية لم تعد المؤسسات الرسمية (ولا شبه الرسمية في معظم الحالات) تتصف بها في أعين الشعوب.
لكن ما هي هذه الشرعيّة التي تقيم الشعوب ولا تُقعِدها، وتنشب لأجلها الصراعات، وتُبذل في سبيلها الأوقات والأنفس، وتخاض في سبيلها الحروب أحيانا؟
مرة أخرى سأطمئن القارئ الفاضل بأنّي لن أزجّ به في نقاش أكاديميّ لا حاجةَ له به، أحوم به فيه حول أنواع الشرعية الثلاثة عند ماكس فيبر (Max Weber)، وربّما توسّعنا فتناولنا تطوير ديفيد إيستون (David Easton) لإحدى تلك الشرعيات الثلاث ليجعل منها ثلاثا فرعية جديدة! كلّ ذلك ليس مهما بالنسبة إلينا، وإن كان كثير من الأكاديميّين اليوم لا يستطيعون أن يفكّروا إلا من خلاله، بسبب عقدة النقص التي استحكمت فيهم تجاه الإنتاج المعرفيّ الغربيّ، والتي جعلتهم في أفضل الأحوال مقلّدين له، إن لم يكونوا مجرّد ناقلين!
إن انطلقنا من تصور عامّة الناس -كما فعلنا من قبل- فسنقول إنّ الشرعيّة هي الثقة التي يمنحها الشعب لمن يسيّر شؤونه العامّة حين يرضاه بتلك الصفة، سواء أكانت موجّهة إلى مؤسسة، مثل الدستور وسائر مؤسسات الدولة، أو إلى أفراد وجماعات، مثل من يقومون على تسيير هذه المؤسسات. ويفترض في هؤلاء الأفراد والجماعات أن يقوموا، من خلال عملهم داخل إطار تلك المؤسسات، بما فيه حفظ هويّة الشعب وتحقيق أقصى مصلحة له في ظل القيم الكبرى التي يؤمن بها ويُفترض أن يحتويها دستورُه.
المشكلة السياسية، كما تراها شعوبنا اليوم، هي خيانة أولئك الأفراد والجماعات لقيم شعوبهم ومصالحِهم، وحينئذ يجوز، بل يجب، أن تنهض هذه الشعوب لتقويم الانحراف من خلال إقصاء الخائنين ونظامهم، وأن يُستبدل بهم أفراد وجماعات ومؤسسات (نظام) أقدر على أداء الأمانة.
القضيّة إذًا كأنّها تعاقُد بين محكوم وحاكم، أو تحميل المحكوم الحاكم مسؤوليّة تسيير الشؤون العامّة، وهنا نرى -بكلّ وضوح- الخلل المنهجيّ في التفكير، الذي يجعلنا قادرين على أن نقبل بفكرة تسليم سلطة ضخمة إلى مجموعة أفرادٍ نستأمنهم على قيمِنا ومصالحنا، أي على كلّ شيء تقريبًا، بدعوى أنّهم خاضعون لقيود مؤسسية لا تكاد تُوجد إلا في أذهاننا ما دامت هذه المؤسسات استُحدثت بطريقةٍ شكليّة، بدافع التقليد منّا أو الإكراه من غيرِنا.
وكم حاولت صفعات تاريخنا -المعاصر منه على الأقلّ- أن تعيد إلينا رُشدنا الذي ضيعناه بهذا التفكير الخرافيّ! ولكنّا بدل أن نراجع أنفسَنا قضينا أجيالًا وأجيالًا من عُمُر أمّتنا نتحسّس ألم الصفعات ونستعيد ذكرياتِها، فإن علت همّتنا أكثر فلِنَلعن الصفعات، وربّما جانبَنا الأدبُ -بعد أن جانبنا العقلُ- فلعنّا الصافع الناصح لنا!
ما دُمنا مستمرّين في تصورِ أنّ طريق نهضتنا ينطلق من تحقيق هذه "الشرعيّة الشكلية" (Formal Legitimacy; Légitimité Formelle) فإنّنا سنظل بين شرين لا مفر منهما: سيظلّ واقعُنا راضخًا لحُكم غير شرعيٍّ، حُكمٍ لا ينطلق من قيَمنا ولا يحفَظ مصالحَنا، وسيظلُّ خيالُنا رافضًا هذا الحُكم طالبًا إنهاءَه، وكذلك كلامُنا ما سُمِح لنا أن نتكلّم. وما أبأسها من حال: ثورةٌ في الأحلام تقضّ مضاجع القلوب، وذلّ في الواقع مستقِرّ يهُدّ النفوس والأجسام!
إن رجعنا بمشكلتنا هذه إلى التاريخ نستنصحه، وقد رُكّب في طبيعته النّصح، فسيهدينا إلى تصوُّرٍ مختلِف، تصوُّر يُرضي العقل ويبيّن سُبُل العمل ويضمن النجاح بإذن الله.
إنّ المجتمعات التي حظيت بالشرعيّة الشكلية التي نرنو إليها منذ عقود طويلة، قد نشأت عبر التاريخ من خلال عمل اجتماعيّ كثيف يأخُذ ما كتب له الله من الزمن.
يبدأ مسار هذا العمل الاجتماعيّ من فكرة يُقدَّر لها أن تجذبَ اهتمام عددٍ من أفراد المجموعة الإنسانية في مكانٍ ما، فكرةٍ تحملُ تصوُّرًا عميقًا عن الإنسان وأصلِه وهدفِه في هذه الحياة. وبحكم الانجذاب الناتج عن مضمون هذه الفكرة الأصيل والعميق، تزدادُ دائرة المؤمنين بها باستمرار، حتى تصيرَ هذه هي الأقدرَ على أن ينسُجَ الناسُ على منوالِها تصوُّرَهم عن قيمِهم الاجتماعيّة أوًّلًا، ثمّ عن المؤسسات السياسيّة التي تنظّم شؤونهم العامّة، ويستأمنون عليها من اتّصفَ منهم بحُسن الاستقامة التي تُقّوَّم بمقياس هذه الفكرة ذاتِها، فهمًا وعملًا وكفاءة.
هكذا يكون لنا تصوُّرٌ عن المؤسسات السياسيّة ومن يسيّرها من السياسيّين شديدُ الارتباط بالواقع الاجتماعيّ النَّشِط الذي أنتجته الفكرة، وهكذا تكون السياسةُ ظاهرةً اجتماعيّةً صحيّة، تسيرُ في طريق المجتمَع لا خلافَه، لأنّها منتَجٌ له لا منتِجٌ له، أو هي بِنتُه التي له عليها واجب الطاعة، وبيدِه وسيلةُ حملِها على ذلك، لا أمُّه التي لا يملِك أمامَها إلا الرضا أو التسليم على مضض. والصبيّ الصغير لا يُنتظَر أن تكون له بنتٌ، ناهيك أن تكون له مطيعة، إنّما يكون ذلك كلُّه للرجُل إن جمعَ قدرًا كافيًا من شروط الرجولة الحسيّة والمعنوية، وكذلك الفرقُ بين المجتمع حين ينضُج تكوينُه على فكرةٍ قوية جامعة دافعة، ومجموعةٍ من الناس -مهما عظُم عددُها- حِينَ تَحرِم نفسَها الرؤيةَ الواضحة والطاقةَ الدافعة.
السياسةُ إذًا ظاهرةٌ اجتماعية لا أكثر، تنشأ عن مجتمعٍ له مشروعٌ تاريخيٌّ موحّدٌ سار فيه أشواطًا من العمل الاجتماعيّ، وليست -كما يحلو لنا أن نتصوّر- شرطًا أوّليًّا من أجل أن ينطلق المجتمع في مشروعه الموحّد، مشروعِ نهضته الأخلاقيّة والماديّة.
لعلّه اتّضحَ أنّنا، في هذا التصوُّر للظاهرة السياسيّة، لا نتحدّث -كما هو واضح- عن مجرّد شرعيّةٍ شكليّة تتصف بها مؤسساتٌ (سياسيّة) استُحدثت من خارج تطوُّرنا الاجتماعي، سواءٌ أكانت من مخلّفات الاستعمار أو من آثار التقليد، والتي استغلّتها عصاباتٌ منّا لمصالحها الضيّقة. نحنُ نتحدّث هنا عن "شرعية موضوعيّة" (Objective Legitimacy; Légitimité Objective) يُنشئُها المجتمع من خلال عمليّة تكوُّنه ذاتِها، وهي محفوظةٌ له بقوّة الواقع نفسِه، فلا تستطيعُ يدٌ أن تمتدّ لتسرِقها منه ما دام مُخلصًا لفكرته الجوهريّة التي قام عليها، فإن خانَها كما خانَها آباؤنا الأوّلون، فلا يلومنّ إلا نفسَه حين تُسرَقُ منه قُدرتُه على التحكُّم في مصيرِه، كما كانت الحال عندنا منذ قرونٍ ولا تزال!
ويجب علينا أن نبيّن هنا أنّ الفكرةَ التي تُنشئ المجتمع ذي الشرعية الحقيقيّة (الشرعية الموضوعيّة) يجب أن تكون ذات مضمونٍ حقيقيّ، حتّى يكون ممكنًا تحوُّلها إلى مشروعٍ اجتماعيّ فعليّ بنّاء، أمّا إن ظننّا أنّنا نستطيع أن نبنيَ مشروعًا اجتماعيًّا على الدعاوى والشعاراتِ (السياسية) التي يحملُها السواد الأعظمُ منّا اليوم فذلك أوّل انحرافِنا عن طريق النهضة الحقّة والسياسة الحقيقيّة. وإنّ الناقد البصيرَ لا يملِكُ إلا أن يَعجَبَ كيف يُمكن أن ينشأ مشروع اجتماعيّ من شعارٍ خاوٍ مثلِ "الوطنيّة"، لا يحمل قِطميرًا من تصوُّرٍ لمشروعٍ اجتماعيّ، لا في قيمِه ولا في وسائل عملِه! وليس أولئك الذين يتشدّقون برفض "العقائد" أو "الأيديولوجيات" جميعِها والاقتصار على "الوطنيّة" إلّا قطّاعَ طُرقٍ في وجهِ كلّ مشروع اجتماعيّ مُحتمَل، يحملُهم على ذلك هَوًى يغذيه انتفاعُهم من حالة شعوبنا المُزرية، أو عجزٌ عقليٌّ قعد بهم عن أن يستطيعوا فهم حقيقة المشروع الاجتماعيّ في عمومه.
والناظِرُ في أسفار التاريخ وشواهد الواقع يرى أنّ كلّ مجتمعٍ حقّق نهضةً على هذه الأرض فإنّ مُنطَلَقه كان من عملٍ اجتماعيّ كثيفٍ بعثته فكرةٌ ما، فانتقال العرب من حالِ التسيُّب والفراغ الجاهليَّيْنِ إلى حالِ العدل والقوّة وقيادة العالَم لا يمكن إرجاعُه إلى عاملٍ أوّليٍّ غيرِ الفكرة الإسلاميّة؛ فهناك في صحراء الجزيرة العربية القاحلة ورمضائها الحامية كان محمدٌ صلى الله عليه وسلّم يُعيد تكوينَ نفسيّة العرب ورؤيتهم للكون والحياة، ويؤسّس العلاقات الاجتماعيّة التي بعثت في مجتمع المدينةِ النبويّة القدرةَ الرائعة على الانتقال شيئًا فشيئًا إلى حالِ تحكُّمهم في شؤون أنفُسهم، حتّى صارت علاقة الحُكم المثاليّةُ التي تطمح إليها شعوب الأرض كلُّها اليوم ثقافةً مغروسةً بعُمق وعفويّة في نفوس الحاكمين والمحكومين، وقد روي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال -وهو خليفةٌ- في مجلسٍ وحوله المهاجرون والأنصار: ((أرأيتم لو ترخّصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟))، فسكتوا، فكرّر ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال رجلٌ منهم: لو فعلتَ ذلك قوّمناك تقويم القَدَح ، فقال عمر : أنتُم إذًا أنتُم".
ويقفُ قبلَه أبو بكرٍ الصدّيقُ رضي اللهُ عنه وقد صار إليه حكُمُ أمّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم كلِّها، فيكون أوّلَ كلامٍ يفتتح به حُكمَه أن يقول: ((إني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقويّ فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله (...) أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)). ولقد جاءت فِعالُه وفِعالُ سائر الخلفاء الراشدين المهديّين الأربعة مصدِّقةً لأقوالهم، وكانت رعيَّتُهم تعي طبيعة علاقةِ الحاكم بالمحكوم وعيًا عميقًا متغلغِلًا في تصرُّفات حياتهم اليوميّة، وتاريخ هذه المرحلة الإسلاميّة المبكّرة شاهدٌ على ذلك.
هذه الحالُ لم تُوجَد فجأة، ولا كانت نتيجةً لحركةِ مطالبةٍ بالحقوق واسعة، إنّما هو بناء المجتمع أُعيد من أُسُسِه حين اتّجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإنسان فأعاد بناءَ رُوحه وتصوُّرِه على فكرة الإسلام، فلم يعُد يقبل أن يكون عبدًا ولا طاغية.
وكذلك حدث حين انتقلت الفكرة المسيحيّة إلى شمال أوربّا منذ قرونٍ بعيدة، ووجدت مستقرَّا لها في قلوب ناسٍ بُسطاء الفكر، فبعثت فيهم طاقةً على تغييرِ الواقع من حولهم، وأعطتهم قيمًا يؤسسون عليها نظامَ حياتِهم، حتّى قامت بهم حضارةٌ لا نزالُ نجِد بعضَ ريحِها في الغربِ اليوم.
بل إنّ النهضة الشيوعيّةَ نفسَها جرت على هذه السُنن، وما كان لها إلا أن تفعل؛ فالذي حوّل روسيا القيصريّة المُهَلهلة الفقيرة إلى الاتحاد السوفياتيّ الذي صار أحد قُطبي السياسة والاقتصاد والعسكريّة العالميّة في ثلاثة عقودٍ فقط، لم يكُن نظامَ الاشتراكيّةِ السوفياتيةِ السياسيَّ ولا هيكلَتها الاقتصاديّة، ولا حتّى الظروف الموضوعيّة بمفهوم ماركس للتاريخ، فلقد تنبّأ ماركس بأنّ الثورة الشيوعيّة ستنطلق من بريطانيا وغرب أوربا الذي بلغ أعلى درجات التناقُض الاجتماعيّ بين مستوى الإنتاج ونمطِ التوزيع، غير أنّ التاريخ كذّب نبوءته كما هو معلوم، وذلك أنّ الثورة الشيوعيّة انطلقت من روسيا التي كانت متخلّفةً كثيرًا عن غرب أوربا في تحوُّلها إلى النظام الرأسماليّ. فلِمَ حدثَ ذلك وفيمَ أخطأ ماركس؟
الجوابُ المُختصَر هو أنّ الروسَ كانت لا تزالُ أنفُسُهم خفيفةً خِفّة الروح المؤمنة، نشِطةً نشاطَ الفكرة الدينية (المسيحية)، فما إن وقعت بينهم الفكرة الشيوعيّة حتّى حوّلوها إلى حقيقةٍ بفضل نشاطهم الاجتماعيّ. أمّا أهلُ أوربّا الغربيّة فقد كانت أرواحُهم هرِمةً مُثقَلة عاجزة مقيّدةً وهي في منعطف أفولها الحضاريّ بقيود الإخلاد إلى الأرض، فلم تكُن تُحسِنُ إلّا التأفُّفَ والمٌطالبة بالحقوق كما يفعل من يُرَدُّ إلى أرذل العُمُر. ولقد أعمت ماركسَ ماديّتُه فغفل عن هذه الحقيقة الإنسانيّة، فكذّب تاريخُ الإنسان نبوءةً غير إنسانية.
وعلى أساسٍ من هذا نستطيعُ أن نقدِّمَ تفسيرًا للانهيار السوفياتيّ مختلفًا عمّا درج عليه باحثونا في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدوليّة، فالوحدةُ التي قام عليها الاتحاد السوفياتيّ كانت وهميّةً، لأنّها حمَلت تناقضًا شديدًا في داخلها بين الروح المسيحيّة والنظام الاشتراكيّ؛ لقد كان الروسُ على ذلك العهد ينطلقون بأرواحهم المسيحيّة ليُقيموا صرحَ الاشتراكيّة المناقضَ للمسيحيّة تمامًا، فما لَبِث البناءُ أن تصدَّع مِن داخلِه، وذلك أمرٌ سلِمت منه الفكرة الإسلاميّة بطبيعتها، فالإسلام يبعث روحَ الإنسان ويهدي عقلَه إلى نظام حياتِه في الوقت نفسِه.
مِن هنا تنطلق النهضات التي يكون من نتائجها أن تستطيع الشعوبُ تحقيقَ قيمِها وحفظَ مصالحِها (وهذا هدفُ السياسة كما نتصوَّرُه)، وهكذا تُبنى الشرعيّة الموضوعيّة التي تأتي الشرعيّةُ الشكليّة مجرّدَ تعبيرٍ تنظيميٍّ عنها، حتى إنّ الشعب البريطانيّ الذي بنى شرعيّته الموضوعيّة خلال قرونٍ سبقت من التاريخ لم يجِد ضرورةً تدعوه إلى صياغتِها في دستور يحسبه كثيرٌ منّا اليومَ أوّل حجرٍ في بناءِ نهضتِنا!
أمّا حين تنحطُّ همّتُنا ويصيرُ هدفَنا إدراكُ "الشرعية الشكلية"، فإنّنا نكون قد ركنّا إلى الطريق السهل، ولكنّه طريق مسدود لا يوصلنا إلى مبتغانا، ونحن بَدلَ أن نعي خطأنا ونحُثّ خُطانا إلى الطريق الصحيح، مكثنا منذ زمنٍ عند نهاية الطريق المسدود هذا، نيأسُ حينًا من بلوغ مَرامِنا، ثمّ تنبعث فينا بعد حينٍ الرغبةُ في مواصلة السير من جديد، ولكن في الطريق المسدودة ذاتِها، فنلجأ إلى أفكارٍ سحريّةٍ نُوهمُ بها أنفُسنا أنّا وجدنا مَنفذًا خلالَ جُدُر التاريخ الراسخة التي جعلها الله له سننًا لا تزول إلا أن يشاء الله.
هكذا نسمع من يلعنُ النظام الحاكم ويشغل نفسَه وإخوانَه بفضحِ تضييع هذا النظام لمصالح الشعب ونبذِه القوانينَ وراء ظهرِه، ثمّ نجدُه يدعو الناسَ إلى البحث عن مخرجٍ قانونيّ للأزمةِ السياسيّة التي تعيشها الجزائر اليوم! ونجدُ من رأى الدستور لعبةً بأيدي العصابةِ يقلّبونها في أيديهم كيف شاءوا سنينَ طويلة، ثمّ هو ينتفضُ فلا يجد إلا أن يُحاكمهم إلى لعبةٍ بأيديهم حين يبحث عن المخرج في الدستور! وتلكم هي سياسة الوهم التي تُدعى في بَلَدِنا "البوليتيك" (La boulitique)، والتي لم نعُد نُحسن التفكير إلا بها وفيها!
ولقد سبقَنا إلى زيف "البوليتيك" هذا روّاد ما يُدعى "النهضة العربية" الحديثة، حين كانوا يرون الحلّ في إقامة النظام النيابيّ بإنشاء البرلمان، وها هي البرلمانات اليوم في كلّ مكانٍ من بلادنا العربية والإسلاميّة، ولكنّا لم نجنِ منها إلا التقتيرَ علينا في معيشتنا والحطَّ من قيمتِنا أمام أنفُسنا والناس.
وعلى هذا الدربِ سلك ويسلك مفكّرونا السياسيّون والباحثون في السياسة عندنا، يصرفون مواردَ الناس وأعمارَهم في السعي وراء السراب، يُنظِّرون للدولة المدنيّة والمؤسسات الديمقراطيّة والتنمية السياسيّة وكلّ خرافةٍ من خرافات "الشرعيّة الشكلية" التي تشرَّبوها من الفكر السياسيّ الغربي الحديث. وإنّ من المعقول في الغرب أن ينصرفَ الناس إلى "الشرعية الشكلية" التي نتجت عن تطوُّرٍ اجتماعيّ حقيقيّ أفضى إلى أنظمةٍ سياسيةٍ لم يجِد المفكّرون والباحثون بُدًّا من أن يفكّروا فيها، بالرغم من أنّ تعلُّقَهم بأهداب هذه الشكليّة الذي نتج عن تمكُّن النزعة العلمانيّة فيهم هو من أهمّ أسباب الفوضى الاجتماعيّة والسياسيّة التي ما ينفكّون ينغمسون فيها أكثر كلّ يوم؛ أمّا أن ننشغل نحنُ، الذين تحلّلت مجتمعاتُنا وفقدت قدرتَها على أداء وظيفتها الاجتماعيّة، بأشكال النظم السياسيّة ونغفل عن حقيقةِ الظاهرة الاجتماعية، فلا تفسيرَ لذلك منطقيًّا إلا عجزُنا العقليّ، ولا وصف له أخلاقيًّا إلا الخيانة! ولقد بلغ من زيفِ مفكّرينا السياسِيين أنّهم حتّى حين يُريدون الكلام عن المجتمع لا يرونه إلا بعينِ سياسة الشكليات، فلا يرون المجتمع في الحقيقة، إنّما يتوهّمون "مجتمعًا مدنيًّا" ليس إلا ذراعًا من أذرع "الدولة الحديثة"، الوباءِ الطامِّ على تنظيمِنا وفكرِنا الاجتماعيَّيْنِ.
السياسة الحقيقيّة ظاهرةٌ اجتماعيّة تخضع لقوانين التطوُّر الاجتماعيّ وتبني شرعية موضوعيَة، أمّا سياسة الوهم (البوليتيك) فهي خيالٌ يستلِذُّه الإنسان العاجِز، ولا تخضعُ إلا للصُّدَف والألفاظ، وتدّعي شرعيةً شكليةً ليست إلا كما يخطّ امرؤٌ خطًّا على الماء.
والسياسة الحقيقيّة تنشأ عن قيامِ الإنسان بواجباتِه تجاه الفكرة التي يؤمن بها (أي: محيطِه الروحيّ)، في البيئة التي يعيش فيها (أي: محيطِه الماديّ)، أمّا سياسة الوهم فمضمونُها المطالبة بالحقوق، والتوسُّل إلى ذلك بالشعارات! وإنّ حقًّا عليّ أن أوردَ هنا شيئًا من كلامِ المفكّر العبقريّ الصادق، مالك بن نبي رحمه الله، الذي ليس ما كتبتُه هنا إلا أثرًا من نورِ فكرِه بفضل الله عليه وعلينا، فقد كتب في "شروط النهضة" متحسِّرًا:
((لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسِينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية، بما فيها من قيم الجمال والأخلاق، وما فيها أيضا من نقائص تعتري كل شعب نائم.
وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة، فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات. وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية. فلكم شربنا في تلك الأيام الشاي، وكم سمعنا من الأسطوانات، وكم رددنا عبارة "إننا نطالب بحقوقنا"، تلك الحقوق الخلابة المغرية، التي يستسهلها الناس، فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات.
وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابيٍّ يقاد إلى صناديق الاقتراع، أو قافلةٍ عمياءَ زاغت عن الطريق فذهبت حيث قادتها الصدف في تيار المرشحين.
(...) وإننا لنتذكر-بكل أسف- مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية، وتكلم فيها أحد الطلاب فقال: - "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا"!!
ولقد كانت هذه الكلمة موضع استحسان من جميع الحاضرين!
ألا قاتل الله الجهل، الجهلَ الذي يُلبسه أصحابُه ثوبَ العلم! فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوامّ، لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول فهو متخفٍّ في غرور المتعلمين))
((فالحق ليس هدية تُعطى، ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا يُنشئ دستور حقوقه إلا إذا عدّل وضعه الاجتماعي، المرتبطَ بسلوكه النفسي. وإنها لَشِرْعة السماء: غيِّر نفسك، تغيّرِ التاريخ!))
وإنّ في هذا الاقتباس الأخير لتلخيصًا لكلّ ما قيل.