لا يمكن للربيع أن يبدأ وتكتسي الأشجار حلتها الجديدة وتزهر الأغصان قبل أن تسقط الأوراق الصفراء البالية عن هذه الأشجار، لتعلن الأرض بداية فصل جديد، وهكذا ربيع الشعوب سوف يبدأ عندما تسقط أوراق الأنظمة المستبدة الفاسدة ويزول ظلمها ويُزاح لصوص ثروات الشعوب من الدروب، وتَكسر الشعوب المتعطشة لحريتها القيود وتزيل الحواجز والعلاقة التي تربطها بهذه الأنظمة القمعية.
وبعيداً عما آلت إليه الأوضاع الشعبية بالوقت الحالي، فإن الطغاة يعلمون بأن الحال اختلفت بعد عام 2011م، ولم تعد كما كانت عليه سابقاً، بل ويمكننا القول: إن تغيراً مهماً دخل على معادلة المنطقة، وهو أن علاقة الشعوب بالأنظمة الدكتاتورية قد تصدّعت، وأن "تغيير الوعي الشعبي" الذي حدث بالفعل هو أحد المكاسب الأكثر أهميّة لهذه الشعوب في تفكيرها واختيار طريقها الصحيح. والسؤال يُطرح: متى يبدأ ربيع الشعوب وتنجح في تحقيق أهدافها النبيلة؟ . وللإجابة عن هذا السؤال، نرى أنه:
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يتحول قادة الإرهاب الذين قمعوا الشعوب إلى المحاكم الوطنية، ويحاكمون محاكمة عادلة على ما اقترفت أيديهم من أعمال إجرامية راح ضحيتها آلاف الأطفال والنساء والشباب والشيوخ.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يُحاسب أصحاب المناصب الذي سرقوا قوت الشعوب وضيعوا الأموال العامة ونهبوها وصرفوها على ملذاتهم وحياتهم الخاصة، وعندما تُعاد هذه الأموال إلى أصحابها الأصليين ومستحقيها "الشعب".
- يبدأ ربيع الشعوب عندما لا يتحكم بقضايا الأمة العليا ومصير شعوبها إلا القادة الحقيقيون أصحاب النظر البعيد والمسؤولية الرفيعة والذكاء الحاد والعقل النير القادرون على تحقيق مصالح شعوبهم في هذا العالم الفسيح، باعتبار سلطتهم نابعة من إرادة الشعب، وعبروا عن وجدانه وضميره.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تُخلى السجون من معتقلي الفكر والرأي، وقادة الإصلاح السياسي والاجتماعي والدستوري والفكري.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما لا يغتال المستبد أصحاب القلم الحر والكلمة الصادقة ورواد الإصلاح والتغيير بأبشع صور القتل والإرهاب.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرى السياسة في أبهج صورها والتداول السلمي على السلطة بعد انتهاء فترة الحاكم السابق، وقدوم حاكم جديد يتولى قيادة الشعب نحو بر الأمان والعدل والرخاء.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تكون حرية الانتخاب مضمونة لكل أفراد الشعب دون استثناء، بلا قيد أو شرط.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرى الشعوب تختار حكامها بإرادة حرة كاملة لا غبار عليها عبر صناديق الاقتراع من منطلق المسؤولية الجماعية، والتنافس النزيه بين المرشحين ليتولى الأصلح من بينهم.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تتحققُّ إرادة الشعوب المنتفضة المقهورة وتحفظ تضحياتها في سبيل الوطن، ولا يقال عنها بأنها مؤامرة خارجية صُدّرت من قبل أنظمة غريبة أو طامعة، بل ربيع شعبي في سبيل تحقيق القيم الإنسانية الرفيعة التي غرسها الله في أصل وفطرة الإنسان.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تُشكل مؤسسات المراقبة وهيئات المحاسبة للمسؤولين عن تلك الشعوب، التي تجعل من الحاكم خادماً وموظفاً وساهراً على راحة المواطن وأمنه.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تُشكل حكومات وطنية تطبق برامجها على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، والتي يتوقُ إليها كثير من الشعوب.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يُمثل الأحرار بقيادة تدافع عن آرائهم وقناعاتهم وأفكارهم، وتراعي شروط حياتهم السياسية والثقافية والمعيشية.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يتساوى جميع أفراد الشعب في الحقوق والواجبات والحريات في الوطن الواحد، فالكل يحمل اسم "مواطن" وله ما له وعليه ما عليه، فلا إضعاف ولا إبطال للمكانة المتساوية في تحقيق حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في ميادين الحياة العامة. فلا فرق فيها بين الحاكم والمحكوم، ولا بين الضعيف والقوي، ولا بين الفقير والغني، ولا بين ابن المدينة وابن الريف، ولا بين ابن هذه القبيلة أو تلك، فالكل في ظل دولة القانون وحكم العدالة سواء.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يتفق الحاكم والمحكوم على مرجعية قانونية عليا يحتكم إليها الجميع؛ وتنتصر للقيم الإنسانية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، مستمدة ذلك من كتاب الله العزيز وهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرى مؤسسة القضاء في الدولة، تبسط العدل على مستوى الحكومة ومستوى الشعب، مستقلة بقرارها بعيدة عن سلطة الحاكم ولا تتعاطف مع أي من المتخاصمين تحقيقاً لقيمة ربانية في إقامة العدل بين الناس.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرى المواطنين قادرين على تشكيل المؤسسات والنقابات والأحزاب العاملة في مجالات الفكر والمجتمع والاقتصاد والحوار والحقوق والبناء، ويصبحوا قادرون على الممارسة السياسية والحزبية دون معوقات أو ملاحقات أمنية وقضائية عسكرية ميدانية.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرى الجيوش وقياداتها تحمي الدستور وتحافظ على مؤسسات الدولة وتصون كرامة المواطنين، وتحمي الحدود، ولا تتدخل في شؤون الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية مطلقاً، فلا يتولى الجنرال ولا ضابط الأمن إدارة في شؤون الخدمات أو الصناعة أو التنمية أو الصحة أو التعليم أو شؤون الأسرة، فكل ميسر لما خلق له، وللمكان المناسب الشخص المناسب.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما توفر الدولة الوطنية فرص العمل لجميع المواطنين دون تمييز، ودون وساطات أو محسوبيات، ودون سؤال ومفاضلة بين مستحق وغير مستحق، فالاختيار يكون على أساس الكفاءة والخبرة والقدرات، لا على أساس المناطقية والقبلية والمكانة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تستثمر الدولة في طاقات الشباب، وتشجع الاستثمار والإبداع، والفكرة والابتكار والعطاء والمنافسة، وتخلق فرصاً متنوعة لتفريغ حيوية الشباب وطاقاتهم لأداء مهامهم وواجباتهم على أكمل وجه وترتقي بهم روحياً وعقلياً وجسدياً، وتساعدهم على التغلب على الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يضمن المواطن حقوقه الصحية ويتلقى العلاج الصحي اللائق، فإن أكثر من يدفع ثمن غياب الحقوق الصحية هم أكثر الفئات استضعافاً في المجتمع، كالأطفال والنساء والمسنين والطبقات الدنيا وذوي الاحتياجات الخاصة.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تنتهي الدولة من السياسة التي تقوم على الإقصاء والتهميش والتمييز والتفرقة العنصرية والقومية والجهوية والقبلية بين أبناء الوطن الواحد، وبعدها تبنى جسور التواصل والتسامح والمحبة والإخاء بين الأفراد.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تحترم الدولة العلماء والمفكرين والباحثين والمعلمين والفنانين والمبدعين والرياضيين وترفع من قدرهم، فلا يكونوا أرقاماً أو أسماء على ورق، بل تعتمد هيئات بحثية و تبني لهم صروح علمية ضخمة ومراكز ثقافية ومكتبات رائدة ومنتديات ثقافية وأندية رياضية ترعى أعمالهم وخبراتهم، ولا تجبرهم على الهجرة ومغادرة البلاد شرقاً وغرباً.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تجعل الدولة - صاحبة الشأن والمسؤولة عن تنمية وتعليم أبنائها - من العلم والبحث العلمي وسيلة وهدفاً لتحقيق غايات السمو الفكري والعلمي والرقي الحضاري، وبناء الإنسان الفعال في مسيرة الحضارة الإنسانية ومتفاعلاً معها لا مستهلكاً لإنتاجها لا أكثر.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما ترعى الدولة مؤسسات الآداب والفنون الإنسانية من الأدب والشعر والفن والمسرح وهنا تنتصر القيم الإنسانية الرفيعة. وبالتالي: تكون فنون الإنسان وأعماله الأدبية جزءاً من اهتمامات الدولة الاجتماعية والثقافية، فتبني المراكز الحضارية لتكون منارة وهداية لشباب الأمة في النهوض بهذا الميدان المحوري.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تصبح جامعاتنا صروحاً شامخة للعلم والأدب ومحاضناً للإنتاج المعرفي ومراكزاً للتطوير العلمي والتكنولوجي، ترعاها قيادة حكيمة وحكومة رشيدة تعرف قيمة العلم والمتعلم في بناء أسس الحضارة.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما توفر الدولة لمواطنيها العمال الحياة الكريمة والعيش الرغيد، وتقضي على البطالة في المجتمع، وتؤمن كل ما يلزمهم من رعاية وخدمات في نقابات تحقق لهم العدالة الاجتماعية وتعطيهم حقوقهم في دولة القانون والمواطنة والديمقراطية.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تحصل المرأة على حقوقها وواجباتها، وتأخذ دورها الريادي في الدولة والمجتمع، ويكون لديها المجال للمشاركة والتعبير عن رأيها دون قيد قانوني أو مانع اجتماعي، وتكون عنصراً فاعلاً في مسيرة هذا المجتمع كونها جزءاً أساسياً من مكوناته وأسهمت في ربيعه كما ساهم الرجل تماماً.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تنتفي الجهويات والمناطقية والقبلية من أذهان المسؤولين والقيادات في الدولة، ويكون الدور الأكبر لمن يسهم في نهضة الشعب ورخائه، لا من يكون معطلاً وانتهازياً على أكتاف وأعناق الآخرين من أبناء وطنه.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تصبح الزراعة والصناعة والتجارة أولوية كبرى للنهوض باقتصاد الوطن، وتتحول الدول الريعية إلى دول منتجة ومؤثرة في الاقتصاد العالمي، وليست سنغافورة أو البرازيل أو تركيا أو الهند وماليزيا بأمثلة موغلة في القدم، بل هي شاهد عيان على التطور الكبير والتنمية الذاتية التي اعتمدت رأس المال البشري والاقتصاد الممكن لإنجاز المستحيل والوصول إلى قمة التفوق بحيث أصبحت من بلدان العالم الثاني في يومنا هذا.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تحظى الطفولة والأطفال في أوطاننا بالرعاية الاجتماعية والصحية الكافية، ويكون لهم مخصصات معيشية مبكرة تهون على أهلهم عبء الحياة ومشاقها.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يصبح النظام الضريبي نظاماً متناسقاً يتناسب مع دخول الأفراد موظفين وعاملين وتجار، بما يتناسب مع روح العدالة، وأن يكون الإصلاح الاقتصادي متناسباً مع موارد الدولة وحاجات المواطنين والقدرة الإنتاجية. فالضريبة هي مشروعية الدولة أمام مواطنيها، ولكن أن تكون معقولة وتصرف في المكان المناسب بما يخدم رفاه المواطن في الدولة.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تسود العدالة الاجتماعية في البلاد وتوزع الثروات في المجتمع بشكل عادل، فلا يوجد انقسام اجتماعي حاد يتمثل بأقلية غنية مسيطرة تستأثر بالسلطة والثروة وأغلبية فقيرة مستلبة الحقوق وتتعرض للقمع والاضطهاد من قبل الأقلية المسيطرة.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تصبح الدولة ذات شخصية اعتبارية مستقلة تمضي في ميادين المنافسة وتواكب التطورات السياسية والعسكرية والأمنية الحديثة، وتساهم خارجية الدولة في المحافل الإقليمية والدولية للنهوض بالإنسانية ككل.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما يصبح الفكر المؤسساتي وعمل الجمعيات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ركيزة مهمة في تنمية عقول الأفراد، وبالتالي تتشكل قاعدة للتطوير والبناء والتميز في الإبداع.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما تكون قضايا العرب والمسلمين وبني البشر كافة حاضرة في جدول أعمال الدولة، وفي وجدان أبناء الوطن ومشاعرهم الإنسانية، فكيف يعيش إنسان بخير وآخر يعذب ويقتل ويهان ويذل ويشرد ويحاصر دون تضامن إنساني أو موقف أخلاقي من الدولة ومواطنيها.
- يبدأ ربيع الشعوب عندما نرفض التدخل في شؤوننا الخاصة من أي دولة كانت، فالشراكة الدولية واجبة والعلاقات الإنسانية مع الدول أمر طبيعي، ولكن أن تصبح أراضي الدولة ومصير أبنائها بأيدي طامعين ومغتصبين، فهنا المشكلة ولا بدَّ من الحل، وبذلك ينتصر "ربيع الشعوب".
لا شك بأننا نمر بظروف صعبة وابتلاءات بين الشعوب وحكامها المستبدين وأعداء الأمة الذين لا يريدون لهذه الأمة الشهود الحضاري المرتقب، والذين يدعمون الأنظمة الديكتاتورية وأتباعها من لصوص ثروات الشعوب التي جردت الناس من حقوقها وإنسانيتها، ولسان حالهم كما في قول فرعون الوارد في القرآن الكريم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29].
عندما تتحقق هذه الأهداف السامية تغدو القيم الإنسانية المستَمدة من الكتاب الكريم "الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"، مرجعية لكل مواطن ومواطنة، ويدرك المواطنون قيمة هويتهم وحضارتهم ودورهم بعد الخلاص من سطوة فقهاء الاستبداد ودعاة الديكتاتورية وأنصار الثورات المضادة، وأخيراً يمكننا القول: إن ربيع الشعوب المقهورة قد بدأ وفي طريقة للنجاح.
وفي نهاية المطاف، أختم بكلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
والحمد لله رب العالمين