-أينما كنت، تأمل الشوارع ولوحات الإعلانات من حولك، انظر في هاتفك، في مواقع التواصل الاجتماعي التي تستخدمها يومياً، لعشر دقائق، هل أحصيت كم إعلاناً ترويجيا داهمك؟ كم امرأة، نصف امرأة، صوت امرأة، ضحكة امرأة ظهرت في الإعلان ؟!-
لم يعد خافياً على أحد هذه الأيام شره الأسواق والمحال التجارية لاستغلال المناسبات لتسويق منتجاتهم، والتي لا تدري كيف تلف الدوائر بها وتجد طريقها المناسب لقلب الجمهور، فجميعنا أصبحنا "جمهور مستهدف" لشركات التسويق بغض النظر عن حقيقة الحاجة الفعلية للمنتج.
اليوم لم تعد الإعلانات محصورة بالقنوات الفضائية على التلفاز فقط، ولعلّ هذا ما زاد الأمر سوءا وتعقيدا، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي باتت الإعلانات أمام نواظرنا طوال الوقت، وتكتسح حساباتنا المختلفة وتسيطر على دوائر اهتمامنا رغماً عنّا بل وتصنعها وتوجهها، الأمر الذي تعدّى مرحلة المطالبة برقابة مشددة باتت شبه مستحيلة إلى ضرورة نشر الوعي وإيجاد رقابة شخصية ذاتية.
وبالرغم من كل القوانين ومواثيق الشرف الصحفي التي تنادي بأخلاقيات الإعلان المهنية، إلا أنه ولا أحد ينكر أن مقومات الإعلان اليوم باتت ترتكز على وتدين بارزين هما "الجنس والجمال" المتمثلان حسب رؤى شركات التسويق بـ المرأة.
تدرك أو لا تدرك المرأة فقد بات حضورها اليوم مختزلاً بجسدها الذي بات أداة للترويج والإغراء وتحقيق الإيرادات العالية، بعد أن ناضل هذا الجسد طويلا لأجل حقوق مهنية وسياسية وأخلاقية. ما يدعو للتأمل ما نشاهده كل عام أثناء الإحتفال العالمي بالمرأة، ففي الوقت الذي تحتفل المرأة بإنصاف المواثيق الدولية لها وإعطائها حق العمل والاقتراع...الخ، توجّه أشرّ إساءة أخلاقية وإنسانية للمرأة، بجعلها أولا "سلعة" تنافس في الأسواق لكسب المزيد من الأرباح، وثانياً استغلال يومها العالمي للترويج لكل شيء، كل شيء بلا استثناء !
- كنت أجلس في حديقة عامة في اسطنبول بينما أفكر بكتابة هذا المقال ، قاطعني شاب ليعطيني ورقة إعلانات لإحدى المحال التجارية الكبيرة بمناسبة يوم المرأة العالمي، (تخفيضات على الخضار واللحوم والأدوات المنزلية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة) ! حسناً إن كان ولابد اجعلوا أدوات المكياج والعناية بالبشرة جزءاً من هذه الاحتفالية الكبيرة بنا !
- معظم الإعلانات الحالية تحمل مضامين مهينة للمرأة، إذ أنها تتعامل معها كجسد ليس إلا، وإلغاء عقل وروح المرأة، وبالتالي إغفال دورها في ميادين كثيرة، لتصبح نظرة المجتمع إليها نظرة استهلاكية تقود الى تثبيط المرأة عن القيام بدورها الصحيح في المجتمع، فهي ليست إلا جسداً جميلا مغرياً جنسياً، فكيف لا زلنا نتساءل عن استهجان بعض المجتمعات لوجود سيدات الأعمال في المناصب الإدارية؟ بل وشكوكهم حول قدراتهنّ على العمل والاستمرار ونحن نشاهد الأطر التي تبث لنا فيها صورة المرأة عبر وسائل الدعاية والإعلان !!
عنان فيرست مؤلفة كتاب "المرأة كسلعة" تقول: "الإعلانات تعكس بالأساس الأيديولوجية الرأسمالية ودور المرأة ضمنها، وتؤكد على أن صورة المرأة في الإعلان لا تخرج عن أنماط وأدوار محددة عادة ما ترتبط بالمنزل وأعمال التنظيف والجانب الجنسي"، الأمر الذي أعتبره مهينا لكرامة المرأة وتحجيم لدورها المختزل بالصورة النمطية التي يعززها الإعلان دائما.
خطورة الأمر تتعدى "التسليع" إلى "تشييء" المرأة، وغرس أفكار وقيم ومُثل تغيّر البنية الفكرية للمجتمع، وتؤثر بسلوكه واختياراته، إذ أن معظم وسائل الإعلان تركز على معايير محددة للجمال والذكاء والقبول الاجتماعي مما يدفع كثير من الناس إلى تبني تلك المعايير كأهداف ينبغي الوصول إليها لتحقيق الكمال والسعادة.
الأكثر سخرية هي الإعلانات التي تستخدم المرأة لعرض أو ترويج منتج لا علاقة له بها، مثل صابون الحلاقة للرجال، وإطارات السيارات، دليل صارخ على تسليع المرأة واختزالها بجسدها الفاتن فقط، بهدف جذب ولفت انتباه المشاهد ومخاطبة الغرائز لديه.
ومن المفارقات الغريبة أن أول إعلان استخدم المرأة كوسيلة ترويجية في الولايات المتحدة لاقى رفضا واحتجاجا من قبل الكثير من الصحف، وأول إعلان فيه صورة مثيرة لامرأة صممته امرأة، وكان دعاية لماركة صابون، صورة لزوج يهدي زوجته الصابونة، ومعها عبارة: "جسد يحب اللمس"، ورفضت حينها صحف نشر العبارة واعتبرتها مثيرة!
تتفق القوانين الدولية ولو بصورة غير مباشرة ومواثيق الشرف الصحفي على حظر استخدام المرأة والطفل بشكل مسيء في الدعاية والإعلان، ورغم أن كرامة المرأة وحمايتها بندا عريضا ومهما في مواثيق حقوق الإنسان العالمية إلا أن الواقع العملي يحفل بالخروقات المهنية والأخلاقية والإنسانية.
مثلا في عام 2000 صدرت قرارات مجلس الأمن 1820 و1888 و1889 و1960 لإرساء قواعد حماية وتعزيز حقوق المرأة، تركز تلك القرارات على ثلاثة أهداف رئيسية هي: تعزيز مشاركة المرأة في صنع القرار، إنهاء العنف الجنسي والإفلات من العقاب، ووضع نظام للمساءلة، أليس تسليع المرأة واختزالها في جسد مغرٍ عنفاً جنسياً يستحق الإيقاف؟ أتساءل حقا !!
في العالم العربي نصت المادة العشرون من ميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي أقرته جامعة الدول العربية على: "الالتزام بأخلاقيات المجتمع العربي وعدم استغلال الطفل والمرأة في الحملات الإعلانية بشكل يسيء إليهما"، ورغم ذلك تطل علينا الإعلانات في الفضائيات العربية بـ "أطر غربية" مخالفة لأخلاقيات وثقافة المنطقة العربية، عوضاً عن كونها مهينة ومسيئة للمرأة بشكل عام!
وفي الأردن مثلاً في عام 2003 أقر مجلس نقابة الصحفيين الأردنيين وفي آخر تعديل لـه (ميثاق الشرف الصحفي)، نصت المادة 13 من الميثاق أن للمرأة حق على الصحافة في عدم التمييز أو التحيّز أو الاستغلال بسبب الجنس أو المستوى الاجتماعي ، وفي هذا السياق يراعي الصحفيون ما يلي:
• عدم استغلال المرأة باعتبارها جسدا للإثارة.
• الدفاع عن حرية المرأة وحقوقها ومسؤولياتها.
إلا أننا ننسى ونحن نناضل لأجل حرية المرأة وحقوقها ومسؤولياتها البند الأول من الميثاق وهو عدم استغلال المرأة باعتبارها جسداً للإثارة ! والسؤال المخيف الذي يطرح نفسه هنا: هل تجد المرأة الإثارة المتمثلة بجسدها شيئا لطيفا لا ترفضه ولا تحاربه في طريقها للنضال نحو الحرية والاستقلالية والتمكين؟! هل تقبل بشكل مبطن أن تكون "سلعة" و"شيء"؟ ففي الوقت الذي قد تتجاهل شركات الدعاية والإعلان مواثيق الشرف ليس أمامنا سوى توعية المرأة ذاتها كي لا تصبح يوما ما سلعة كاسدة و"تخفيضات" أو "سوق سوداء" وهي في سباقها نحو الحرية والتمكين!