دَرج إلينا مفهوم التحيّز كأغلب المفاهيم من الحضارة الغربية، فما نفتأ أفرادًا وجماعات في نفي تُهمة التحيّز عنّا، بل ونتوخى شرّ الوقوع في شِراكه فنتحلّى ببعض المظاهر السلوكيّة ونُمارس تمائمًا وطقوسًا كعبادةٍ حضارية نتقرب بها نحو الحياد المنشود والموضوعية المُنزّهة، بسجيّةٍ أو باصطناع، كلّ ذلك طلبًا لرضاءِ الآخر الغالِب، أو للمفاخرةِ بالاستقلاليّة والالتزام الفكري الناضِج نِدًا للآخر المنافس الذي غالبًا ما يُتهَم بالانغلاقِ والتعصّب المقيت، أما أسمى المطالب فهي البحث عن الحقيقة التي لا تُوجَه بميولٍ ما ذاتي أو إيديولوجي كما لا تُطّعَم بأيّة أفكارٍ مسبقة.. تجردًا تامًا من الذاتية!
هكذا اعتبرنا التحيز المشين بنية ثقافيّة منبوذة، ومنبعًا لكلّ اعتلالٍ فكري، دُون أن يفوتنا اعتباره خطرًا حقيقيًا على حياةٍ مرموقة قِوامها الحياد والموضوعيّة، وتهديدًا مستمرًا للغايات النبيلة التي تهدف لنقل الإنسان من ظُلمات التحيّز إلى نُور الحقيقة.
من هُنا نتساءل: درء التحيّز بالتجرد من الذاتية مطلبٌ يتماشى والإمكان الإنساني؟ لماذا نتحيّز؟ وقبل كلّ ذلك: ما هو مفهوم التحيز.. مقاييسه، ودرجاته.. هل هُو شرٌ كله؟
تماشيًا مع جُهودنا في تشخيص واقع أزمتنا الفكرية، وللإجابة على هذه الأسئلة الرئيسة والأخرى المُتضمنَة، يصطحبكم "عُمران" في رحلةٍ فكريّة إلى أعمق ما سطره الفكر الإسلامي المعاصر حول "التحيّز" مع أيقونته الأولى بلا مُنازع المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري (رحمه الله).
ما هو التحيّز؟
سبق أن قدمنا التحيز باعتباره المتعارف عيبًا ونقيصة، وتعاقدت العقول على ذلك، فظّل هذا المفهوم الوافدِ إلينا من الغرب مُحمَلًا بكم هائل من المدلولات والمعاني السلبية، لكن هُنا سيكون الطرح عميقًا مُختلفًا!
بدايةً، ننطلق من معاجمنا اللغوية، "التحيز" من مادة حَوَزْ يرجع إلى ثلاثة معانٍ: الجمع، الضم والتنحي. معنى الجمع والضم فيما يلي "كل من ضمَّ إلى نفسه شيئا فقد حازَه حَوْزا وحِيازَةً، واحْتازَهُ أيضا". ويُصادق على ذلك سيبويه "التحيز هو تَفَيْعل من حُزْت الشيء، والحَوْز من الأَرض أَن يتخذها رجلٌ ويبين حدودها فيستحقها فلا يكون لأَحد فيها حق معه"
أما في المعاجم المعاصرة ورد بمعنى التنحي بالقول "انحاز القومُ: تركوا مركزهم إِلى آخر." وبمعنى الإنضمام والموافقة على الرأي، وتبني رؤية ما.
من هذا نخلصُ إلى تعريفٍ لغوي عام بالتحيز، لا يبدو في تلافيفه وتفاصيله أيّة معانٍ سلبيّة، فهو الانتقال من شيءِ إلى آخر، الشيء قد يكون موقفًا، مكانًا أو انتماءً.
ننتقل إلى التعريف الاصطلاحي الذي اعتمده المُفكر د. عبد الوهاب بعدما قدّم القواعد الأساسية لما أسماه "فقه التحيّز"، بينما انتقد الاصطلاح السائد بأن التحيز مذمَة وأنّ الحياد والرغبة في التجرد مطمح للعقل الإنساني السويّ، حرر التحيز من السلبية المشحونةِ به وعرفه على أنه مجموع (المناهج والنماذج المعرفية) التي [تميل، تنضم، تنحاز] إلى المعايير الناظمة لها.
إذن، المُنحَاز هو النموذج المعرفي والذي يقصد به "صورة عقلية مجردة ونمط تصوري وتمثيل رمزي للحقيقة." تشكلت تلك الصورة بعد عملية تجريد حيث "يجمع" العقل معطيات الواقع، ويُخضعها للاستبعاد أو الإبقاء، التقزيم أو التضخيم.
أما الانحياز فيكون للمعايير الداخلية الناظمة كجوهر يعبر عن الغائية، يُعرفها "هي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدده وضوابط السلوك، حلال النموذج وحرامه، ما هُو مطلق ونسبي بمنظوره، هي مسلمّات كلية ومرجعيات تُجيب عن أسئلة كلية ونهائية."
بهذا التعريف يُقرّ الدكتور أنّ المناهج، وسائل البحث، والنماذج المعرفية ليست محايدة تمامًا، فخلفها مجموعة من القيم المضمرة التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وهي تقرر مسبقًا كثيرًا من النتائج.
بناءً على ذلك، إن كان التحيز منهجًا معرفيًا بقيم ومعتقدات مضمرة، ألا يتعارض هذا مع الموضوعية العلمية المبتغاة؟ هل يصدق الحُكم بانتقاص التحيز إذن؟ إجمالًا، للبحث عن المشروعيّة من عدمها، نسأل: لماذا نتحيّز؟
لماذا نتحيز؟
لماذا نعتبر أنّ النماذج المعرفية غير محايدة؟ لماذا تتحيّز تلك النماذج إلى ما هُو مُضمر، في حين أنّ الموضوعية تقتضي التجرد من الأحكام المسبقة، بل والتحرر من المعتقدات التي تُكبل المرء وتحجب عنه الحقيقة، حتى أنّ الإقرار بهذا الانحياز قد يجعلنا أمام كسلٍ فكري نتبرم فيه من مقتضيات البحث العلمي المنهكة والوسائل المنحازة، فنتخلّى عن البحث، المقارنة، المحاكمة والمقايسة، ونُسلّم لنتائج مقررة مُسبقًا بما تُمليه المعايير الناظمة!
الدكتور المسيري حاجّ بأسبابٍ منهجيّة خَلُص فيها إلى قاعدتين أساسيتين يعتقد أنهما تشرحان مشروعية التحيّز، حتى يتخفف الإنسان من ذاك الثقل الذي أرهق عقله، فيتمتع بالتحيّز برضاءٍ ودُون أدنى شعورٍ بالزيغ وتأنيب الضمير!
القاعدة الأولى أن التحيز "حتمي" بتمام ما تعنيه الكلمة، إذ لا مفر منه، وهو ضروري وواجب، فلا وجود بالمطلق لمناهج أو نماذج معرفية محايدة، وليست مطالبةً بذلك عقلًا! الحتمية هنا ليست حُكما عشوائيًا بل هذا يرتبط بثلاثة أشياءٍ متداخلة تتعلق بــ:
أ- بالبنية العقليّة للإنسان: أيّ أنّ عملية إدراك الواقع لا تتم بتجرد كما ندعي، فالعقل ليس بآلةٍ صماء، قد يستبعد، يُهمش، يُقزّم، يُضخم، ويُركز على ما يراه هُو، وإن سعى! فإنّ بنية الواقع أعقد من أن يُوَفق! لأنّه "مركب ومليء بالثغرات والتنبؤات ولا ترتبط معطياته الحسيّة برباط السببية الصارمة الواضحة."
ب- باللغة الإنسانية نفسها: التي تعتبر منحازةً "ليست أداة دقيقة تعكس الواقع كما هو بل هي ثرية ومركبة، والمجاز جزء من نسيجها وقد تتداخل دوالها ومدلولاتها وهي مرتبطة ببيئتها الحضارية."
ج- بإنسانية الإنسان: إذ أنّ كل ما هُو "إنساني" لا شك فيه صبغة التفرد التي لا تنفك عنه والذاتية التي مهما تطّلع لتحييدها ظلت لصيقةً به، ومن ثمّ فالتحيّز حتمي.
أما القاعدة الثانية التي تشرح سبب تحيزنا، هي أن التحيز حتمي لكنه ليس نهائيًا، نفهم ذلك من خلال النظر في هويات مختلفة للعجم والعرب استلزمت وجود تحيّزات لكلٍ منهما، ما فرض هذا اختلافًا، ولتجنب التنافر والتناحر بينهما، تأتي أهمية التواصل والتعارف كوسيطٍ دائم متاحٍ يجمعهما في إطار مرجعية نهائية مشتركة رغمًا عن حتمية تحيزاتهما: "بدل أن أضع تحيزي في مقابل تحيزهم، يصبح التحيز هو حتمية التفرد والاختيار الإنساني وهذه مفارقة تشكل إطارًا لإنسانيتنا المشتركة المتنوعة لا الواحدة." إذن الحتمية ليست النهاية التي تضع الواحد فينا على طرف النقيض، النهاية هي الإنسانية المشتركة والقيم الأخلاقية التي تسبق أي تنوع أو تحيز.
إلى الآن، تفريغ مضامين التحيز من الحُمولة الغربية السلبية، ومحاولة شحنها بمدلولات ومعانٍ جديدة يتطلب جُهدًا منهجيًا، واضخًا موازيًا أكثر عُمقًا وبُعدًا عن السطحية، لذلك لم يطلق المسيري المفهوم على عنوانه، إنّما سعى إلى تقييده بجملةٍ من المقاييس: متى يكون التحيز إيجابيًا ومتى يكون سلبيا؟ أيضًا، هل التحيزات على درجةٍ واحدةٍ في كل المجالات؟
التحيز.. مقاييس ودرجات
مقاييس التحيز تسمح لنا بالتمييز بين التحيز الإيجابي المرغوب والتحيز السلبي المذموم، المسيري يطرح ثنائيات قياسية (التحيز للحق والحقيقة/ التحيز للباطل) حيث أنّ المتحمس للحقيقة يمتلك أحكامًا متحيزة يخضعها للحق الذي يقع خارجه، وهذا توجه قرآني أصيل، يقوم على النقد والمراجعة ثم الاستيعاب والتجاوز، لتتم بعد ذلك عملية التصديق والهيمنة، مثال ذلك التصديق القرآني (وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) للحقيقة التي لفظت بها ملكة سبأ (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً).
كما يعتبر المتحيز للحق كل ما يصل إليه مجرد اجتهادات قابلة للرد، بينما المتحيز للباطل يرى أحكامه نهائية مُطلقة، وله عدة صور، كالتحيز للذات باعتبارها مرجعًا وحيدًا للقبول أو الرفض، التحيز للقوة سواءً بفرض الإرادة أو الخضوع للقوة دُون إيمان بها، أو التحيز للسلطان باعتباره مرجعيةً للحق، وكثيرًا ما هُم!
يوجد كذلك (تحيّز واضح واعٍ/ تحيّز كامن غير واعٍ)، الأول يختار بإرادة واعية عقيدة بعينها ثم ينظر للعالم من خلالها، وتقتصر كل دعاياته ونشاطه التعبوي في إطارها، مثال ذلك الشيوعية، الإمبريالية وما انتشر من إيديولوجيات، أما النوع الثاني عندما يستبطن الإنسان بغير وعي منظومة معرفية بكل أولوياتها وأطروحاتها وينظر للعالم من منظارها، يعتبر هذا مدخلًا خطيرًا تستعبد فيه العقول.
(تحيز جزئي/ تحيز كلي)، ينحاز الواثق إلى جزئيات ما أو عناصر تنتمي إلى إطار كلي، بعد تمحيصها وإخضاعها للميزان الشخصي، يظل يتحرك في نسق مفتوح يُخيّر ما يراه، عكس التحيز الكلي الذي ينحاز فيه الشخص إلى منظومة كاملة بكل تشابكاتها وتضميناتها.
كما أن غياب الرؤية الواضحة المُتزنة قد يدفع بالشخص إلى (تحيز أنساقٍ متناقضة) نتيجة عدم قدرته على التفريق، كأن يتفق أحدهم مع رأي أركون في تاريخية النص القرآني مع اعتقاده الجازم أنّ القرآن صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكان!
إضافة إلى (تحيز داخل التحيز) حيث يتبنى الباحث رؤية معينة من داخل نموذج معرفي متكامل، كيف ذلك؟ بأن يدرس أحدهم علم الاجتماع الغربي فيصب كلّ تركيزه على مدارس دُون أخرى، الفرنسية والألمانية دُون النظر في الإنجليزية على سبيل المثال.
أخيرًا، التنصيف حسب: الحدّة فنجد (تحيّز غير حاد/ تحيّز حاد فاضح) أو حسب الموقف من الآخر(تحيز استيعابي/ تحيز إقصائي) كالحاصل في الوقت الراهن، اعتناق إيديولوجيا ما يجعلك في دائرة الاستهداف، تُعدَم لتلقى حتفك، تُساق مكبلًا إلى سجون مغلقة، أو تُقصى من الوجود في دوائر التأثير كأحسن حال!
التحيز يقاس بين الإيجاب والسلب حسب النوع، كما قد تختلف درجته بين تأثير عالي، متوسط و متدني حسب المجالات، لأنّ العقل الإنساني يتدرج في إدراك الحقائق والوقائع وصياغتها بما تسمح به المُدركات والمُقتضيات.
يرى المسيري أنّ التحيز درجته كبيرة في مجال العقائد الدينية، التقاليد والعلاقات الإنسانية، أما في التكنولوجيا والتنمية الصناعية فالتحيز بدرجة متوسطة، وأقل المجالات تعرضًا له العلوم الدقيقة مثل الرياضيات والفيزياء.
ختامًا، من المؤكدِ انكشاف انحياز مفهوم التحيز! لكن.. اختلاف الرؤى في تحديد المفهوم الواحد يجعلنا نقف وقفة صدق ومراجعة، لمنهجيتنا التي تدفعنا لانتخاب مفهوم دُون آخر، للتفتيش عن مُنطلقات كلّ منهجية دون تسليم مُطلق لها، وقبل كلّ ذلك في مسؤوليتنا لترتيب عقول تصيبها الغوارب فتلقي بها في غياهب القصور والتشتت والتأزم الفكري!