في قصة حكيمة للإمام أبي حنيفة وتلميذه الحاذق أبي يوسف الذي ألم به مرض عضال، وبعد أن عاده أستاذه ذكر في مجل من مجالسه أن: "أبا يوسف سيكون له شأن عظيم إن قدِّر له أن ينجو من المرض الخطير الذي ألم به" وبعدما من الله بالعافية على أبي يوسف وسمع ما قال عنه شيخه حتى عزم الكفاية والرجاحة مستفتحا حلقته الخاصة. فما كان من الإمام أبي حنيفة إلا أن يعطيه العبرة بالدرس وكيف أنه استعجل الخطو. فأبرق إليه بسؤال لغز مع أحد التلاميذ جاء فيه أن رجلا أعطى قماشا لخياط ليخيط له ثوبا، ولكن الخياط أنكر وجود القماش، وبعد تفتيش وتهديد اعترف الخياط بوجود الثوب، وكان السؤال هو: هل يعطي صاحب القماش للخياط أجرة الخياطة أم لا؟ موصيا التلميذ بأن يقول لأبي يوسف بأنه قد أخطأ مهما كانت إجابته، فإن قال بأن الخياط يستحق أجرا قال له التلميذ الرسول: ومن أين أبحت لخياط سارق الأجرة؟ وإن قال بأن الخياط لا يستحق أجرا، قال له التلميذ الرسول: ومن أعطاك الحق في أن تحرم خياطا من أجر معلوم كان قد حُدد له سلفا إن هو أكمل خياطة الثوب؟
فما كان من أبي يوسف إلا أن فهم الدرس بترك حلقته إلى شيخه الإمام وطلب منه بعد أن جثا على ركبتيه أن يجيبه على السؤال اللغز. وكانت الإجابة بأن صاحب الثوب يعطي الأجرة للخياط إن كان الخياط قد فصَّل الثوب على مقاس صاحب القماش، مما يعني بأنه لم يفكر في سرقة الثوب إلا بعد أن أكمل خياطته. أما إذا كان الثوب قد فُصَل على مقاس الخياط فلا أجرة للخياط الذي كان قد نوى سرقة الثوب من قبل البدء في خياطته.
نلمس من خلال قصة الإمام مع تلميذه أن التنظير يختلف عن التطبيق لكنه لا يكتمل ولا يصح من دونه، الفارق بينهما هو تحديد الزمان والمكان المناسبين للانتقال من مرحلة إلى أخرى، ففي مختلف المجالات لايمكننا فصل الأمرين فصلا تاما.
التنظير قبل التطبيق
العلم قبل العمل
القيم قبل العمل
الإبداع حصيلة المُتمكن في المجال لا الطارئ عليه
نجد أحيانا أن هناك محاولات تهميش وتقليل من قدر وقيمة الأكاديميين ووصفهم الدائم بالمنظرين البعيدين عن الواقع، فالمفكر لا يصح أن يكون قائدا والعكس، أين تم فصل التنظير عن الواقع بل وتعدى ذلك إلى التخصيص، فأصبح التنظير تخصصا مفصولا عن التطبيق أو الواقع، الأمر الذي أفرز تكتلين متناقضين متنافسين في آن، يمكن التنافس في مسألة من الأهم؟ أو من الأفضل والأجدر؟
إن وجود كتلتين متناقضتين يعني بالضرورة عدم وجود تقاطع سواء من خلال نبذ وجوده أو السعي لعدم خلقه، فنجد مثلا أن أغلب المناصب القيادية تؤول دوما لأصحاب التكتل التطبيقي، هذا الأخير الذي يعد الطبقة المنظرة طبقة منفصلة عنه بالكلية، وأنها مثلها مثل مجالات عدة تسعى الإدارة التطبيقية للإبقاء عليها كوجه نظري بحت ينتهي عند مستوى واحد فقط ألا وهو مستوى الأفكار.
ففي غالبية الحقل الدلالي واللفظي لدى المجتمع العربي كلمات ومصطلحات تنقص من قيمة التنظير فيعزى كل مفكر أنه (يتفلسف، ينظر فقط، هذا تنظير، كلام إنشائي، فلسفة فارغة، كلام مناظرات...) وأي دارس لعلم اللسانيات يدرك أن لهاته الألفاظ بعدها الواقعي والمتكرر، بحيث أن تكرار الاستهزاء بمجال معين يولد فقد الثقة في رواده وإطلاق صفات لا تليق به، وجعله نموذجًا لأي هرف أو كلام غير مفهوم، نتيجة لذلك أصبح التنظير مجرد كلام أكاديمي لا يرقى لأن يثبت أهليته الانتقالية للبعد الواقعي.
أزمة الفصل بين الواقع والتنظير وخلق هوة شاسعة بين العلم والفكر والواقع إذ بات العامة يقتفون أثر من يقودهم بفطرته لا بعلمه وفكره، وأن صاحب الفكر هو إنسان نخبوي أكاديمي لا يتجاوز طرحه صفحات الكتب ورفوفها، الأمر الذي انعكس على مستوى المنظرين أنفسهم فنجد أن أغلب المنتوجات العلمية والبحثية باتت خاوية من منهجها التطبيقي الذي يسعى دائما وراء الحلول التي يخلق لها البعد النظري الإشكالية والتساؤل، وبات المنظر يتوقف عند حد الطرح والتساؤل، أما الحل والتويات فمُستغنى عنه لأنه ما من مجيب أو مساير لما يستجد الباحث، نظرا لأن المطبق في منأى عن التنظير كليةً. وعلى ضوء ذلك يوضح الكاتب ريتشارد سويدبيرغ في مبحثه "قبل النظرية يأتي التنظير أو كيف نجعل العلوم الإجتماعية أكثر جاذبية؟" أن التنظير يجب أن يكون مشروعا شخصيا إلى جانب كونه جماعيا في سيرورة ممنهججة ضمانا لمؤسسة التنظير وتطوير العلوم الإجتماعية بما يخدم الحياة اليومية.
الطلاق في ماليزيا، من الفكرة للإصلاح
في ماليزيا مثلا استطاعت الحكومة هناك أن تتعلم من درس التنظير وتسقطه على واقعها وكان لها في ذلك أمثلة عدة بحيث أوجدت ماليزيا حلّاً عمليّا لـ"الطلاق" استطاعت من خلاله أن تخفض نِسَبه من 32% إلى أقل من 8% خلال السنوات العشر الأخيرة، بفضل مشروع فاعل وطموح تبنّته الدولة، هو "رخصة الزواج"، الذي يحصل بموجبه الشاب والشابة من المقبلين على الارتباط على شهادة "لازمة" لعقد قِرَانهما، بحيث يلتزم كل طرف يرغب في الزواج من الجنسين بأن يخضعوا إلى دورات تدريبية متخصصة، داخل معاهد خاصة، يحصلون بعدها على رخصة تسمح لهم بعقد القران. نلحظ هنا أن الأمر بدأ كفكرة ينظر لها ثم انتقلت للتطبيق فأوردت نفعا كبيرا على المستوى الاجتماعي للدولة.
ومن ضمن الأمثلة المذكورة أيضا حجم تأثر المجتمع الماليزي بفكر مالك بن نبي أين عقد من أجله أول ندوة عام 1991 لمراجعة ما قدمه من نظريات مهمة في مجال النهضة والحضارة. (1)
إن ما وقعنا فيه كعالم عربي وإسلامي خاصة من فصل العلم بمنهجه المكمل ألا وهو التطبيق أوقعنا في مأزق التأخر والمواكبة، فصار المنظر في وادٍ والمطبق في وادٍ آخر، ولا يعترض أحد واد أحد، ما أفرز ذلك مجتمع يخلد رموزه الفكرية كأنها مستحاثات تمجد في الملتقيات والحفلات والندوات المغلقة، وبات موضع القيادة مستهجنا للمفكر والعالم والمنظر، كأن القيادة الحقيقة هي مجموعة من النعرات السياسية والخطابات الشعبوية العاطفية لا غير.