أكثر ما أخشاه هذه الأيام بجدية شديدة، هو أن تنشأ الأجيال الجديدة وهي تظن أن رمضان هو شهر المسلسلات التلفزيونية، وحفلات الإفطار والسحور بصورتها المعهودة.
تخيل نفسك طفلا عاديًا ينشأ في مجتمع يرسل إليك عبر الصور رسائل مستمرة على شاشة التلفاز وعلى كل الإعلانات المتناثرة على الطرق العامة وبشكل بالغ الفجاجة والإلحاح أن رمضان قادم وأن كل المسلسلات ستكون على هذه القناة أو تلك، ماذا تفهم من ذلك؟! هذا ببساطة عنف بصري وثقافي مذهل يبلغ مرتبة الإرهاب ويشوه قيمة هذا الشهر الروحية.
هذا الطفل أيضًا بالتأكيد يسمع في البيت أن رمضان شهر الرحمة والخير، لكنه حين ينزل مع أسرته إلى الشارع يشاهد صورة الناس وهي تشتري مستلزمات رمضان بشكل لا يعكس على الإطلاق ذلك، فالمتاجر لا موطئ فيها لقدم، والأسواق مزدحمة بشكل غير عادي فهذا موسم الطعام و"الياميش"، والولائم التي تجعل مشهد مائدة الرحمن التي يقيمها البعض يبدو هزيلا إلى جانب مشهد الموائد المكتظة بالطعام في البيوت والنوادي.
والفنادق حيث أصبح حجز قاعة لإقامة إفطار جماعي لزملاء العمل أو الهيئة ما ضربًا من المستحيل، كلها محجوزة والوجبة ثمنها نضاعف خلال عام واحد، سيسمع هذا الطفل ببراءة أن رمضان شهر الرحمة، ويراه عيانًا أنه شهر «اللحمة».
في كل عام تزداد شراسة السوق، سوق الإعلام الذي صار يسير على قدمين هما الإعلان والإثارة، لذا فلا تستغرب لو وجدت تلك الإعلانات الضخمة التي تعلن عن "أجرأ" قناة في رمضان، أو أكثر مسلسل إثارة وتشويقًا، يزداد توحش سوق الاستهلاك بشكل مخيف، حتى صار الشراء في الأسواق الكبيرة عادة مختلف شرائح المجتمع، والذي لا يملك الشراء يذهب للفرجة والاشتهاء، وهو ما يخلق كما يقولون في الدراسات الاجتماعية والنفسية "ثورة التطلعات" التي يصاحبها طول الوقت مشاعر الإحباط عند الجميع، عند من اشتری فأصبح يتطلع إلى المزيد بنهم وشره ترف غریب، ومن لا يملك الشراء فيلعن في سره (أولاد ال....) الأغنياء الذين يشترون ويسرفون ويتفاخرون، وتزداد الهوة ويزداد المجتمع توترًا وعنفًا وانقساما، لا تراحمًا.
وفلسفة رمضان أن يكون هو الدواء الأخلاقي لكل هذا الفحش، وأن يغرس فينا معاني الجمال في زمن القبح، وأن يردنا إلى فضاء المعنى والباطن في مواجهة صور الظاهر والمظاهر.
سيصبح التحدي أمامنا في رمضان کي نحتفظ بهذا الشهر ونحفظه هو أن نواجه صورة إضافية وسوقًا لا تقل شراسة هي السوق السياسية، فقد وجد البعض رمضان، فرصة قبل الانتخابات، وبدأ بالفعل نصب مولد الدعاية الانتخابية في طول البلاد وعرضها، وسيكون رمضان موسمًا لأعمال ظاهرها الخير وباطنها الدعاية لرجال "البر والإحسان" المرشحين، حسنًا، فليأكل الفقراء هذا الطعام حلالا لهم وليحذر أهل السياسة أو الطامعون في الانضمام إليهم من فساد النية، وإفساد الديمقراطية.
يصعب في ظل هذا الضجيج البحث عن صفاء العبادة وجلاء النفس، لكن هذا لون من ألوان الجهاد اليوم، أن يملك المرء تحدي المسلسلات بالحرص على العبادات، ويواجه شراهة الاستهلاك بالحرص على المعتاد بل العطاء والزهد، حتى عند تبادل الزيارات يمكن التواصي بالاعتدال والتعاون في تشارك الطعام بين الأسر والأصدقاء.
مثل كل عام يأتي العرب في الترتيب الأول على رأس الشعوب كلها في حرصهم على الذهاب إلى العمرة في رمضان، وكثير منهم اعتمروا من قبل، نتمنى أن يتذكروا العام القادم أن هناك ملايين الأسر تحت خط الفقر وملايين الشباب لا يملكون الحد الأدنى لتأسيس أسرة تحقق لهم العفاف والاستقرار، وأنّ أداء حق المجتمع ليس مجرد التصدق بلقمة على جائع، بل تحقيق الأمن الشامل في حده الأدنى، وهو واجب الحكومات لكنه أيضا مسؤولية تضامنية للمجتمع، وأن الفرد يدعى يوم القيامة إلى الحساب مرتين، مرة ليقرأ كتابه، ومرة ثانية ضمن أمته حين دعي كل أمة إلى كتابها كلها.
من عامل الصور ننتقل إلى مدارج الإحسان.
من أمام الشاشات ومن عالم الاستهلاك نغادر لنبحث عن معاني الإحسان في العبادة، رمضان فرصة لمعراج الروح، في بيوت الله يقف المرء ليرتقي، ومع القرآن في هذا الشهر الفضيل يسعى إلى أن يطهر القلب من الأدران والنفس من الآثام.
لذا فمن الطبيعي أن تتأهب بيوت الله لاستقبال رمضان، على الرغم من أن الاهتمام بها واجب في كل الشهور، لكن رمضان موسم العبادة، وفي رمضان ندرك أن مفاهيمنا الإسلامية ما زالت في حاجة إلى الاستجلاء، وقيمنا الأخلاقية والاجتماعية في حاجة إلى التفعيل.
في شهر رمضان امتدت موائد الطعام، والأيدي لمساعدة أصحاب الحاجات، البعض يتباهى بذلك والبعض يتواضع لله، وفريق يهنئ الناس برمضان ويضع صورته.
ترك الصور في رمضان ونزلت إلى الصلاة، وفي تجوالي بين المساجد في ليالي رمضان بحثا عن مكان يشعرني بالخشوع اتضحت لي معان لمفهوم الإحسان الذي ظلمته الثقافة الشعبية فحصرته في الزكاة والصدقة، على الرغم من أن الإحسان من أعمق المفاهيم الإسلامية التي تقترن بتقوى الله من ناحية بأن يحسن المرء في كل الأعمال مراقبة الله وابتغاء مرضاته، ومن ناحية أخرى يقترن باستكمال أبعاد الجمال في عمارة الأرض.
في مسجد قد تجد من غني بتوفير مساحة للنساء، وقد تسللت للأنف رائحة بخور لطيف، وفي مسجد آخر طافت على المصليات بعض الشابات يحملن ماء باردا، ووجدت ذلك لمسة إحسان جميلة، زادها جمالا تلك الابتسامة الرقيقة للفتاة التي انتظرتني حتى أنهي كوب الماء الذي وجدته مخلوطًا برائحة الزهر، فدعوت لها ولمن مزج الماء بالزهر بأن يشرب من الحوض من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعد خروجي من المسجد وقفت أتأمله من الخارج، ما أجمل هذه العمارة الإسلامية وفلسفتها في التعامل مع الفراغ والمكان، وتلك الروح الجميلة التي أبدعت النقوش وزینت بجماليات الخط العربي ونقوش هندسية ونباتية تلك الجدران والأسقف. وكان يكفي المعماري المسلم أن يبني مسجدا جامعا، لكن الإيمان والإحسان دفعاه إلى الجمال فبقيت لنا تلك الصروح الحضارية.
ألحت عليّ آية: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، فعدت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن أطالع مادة (ح س ن)، فوجدت معاني عديدة وفريدة، من الحسنات إلى الإحسان إلى حسن الثواب إلى الأسماء الحسنی.
واللافت أن الإحسان أداء لكنه أيضا منزلة، فإن وضع المرء نفسه في تلك المنزلة أصبح ما هو فضل وزيادة عند غيره، عنده من واجب، كما في قوله تعالى: (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فإن أنزل المرء نفسه تلك المنزلة وقام بحقها كان له الجزاء: الحسنى، وهي منزلة عند الله، وفوقها زيادة.
كانت أمهات المؤمنين تعطر دراهم الصدقة لأنها لا تقع في يد المسكين بل في يد الله تعالى، وفي تاريخ الأوقاف وما حبس المسلمون مالهم من أجله، آیاتٌ في الإحسان، من أعلى المصالح الاجتماعية، مثل: مؤسسات الصحة والتعليم إلى أبسط المقاصد التي تدور مع الرحمة، مثل: توفير اللبن للقطط الضالة والقمح للحمام في ساحات المساجد.
وجدير بنا في رمضان أن نستحضر تلك المعاني ونتذكر تلك المقامات ونتأمل في آيات الله ونحن نسارع إلى ختم كتابه، وأن نستبطن في نفوسنا معاني الجمال في القول والعمل بإحسان.
ما زال علينا أن نتعلم كثيرة لنكون أهلًا لاستقبال رمضان، وما زال أمامنا نضال عظيم من أجل الدفاع عن هذا الشهر ضد من يريدون تزييفه، تحركهم دوافع المال والسلطة والشهرة ولا يبالون لو أفسدوا علينا الدنيا والدين.
اللهم اعنا في رمضان على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واصرف عنا شياطين الإنس كما قيدت شياطين الجن.