إن رمضان شهر عز وبركة وتزكية، يقينًا (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [1]، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة؛ والتي لا يجوز التهاون ولا التساهل فيها؛ لذا هو أكثر ما قد يكشف لنا أخطائنا وعثراتنا، وسوء فهمنا وقلة أدبنا مع الإسلام، وهو كغيره تماما من الأركان فيه رخص وتخفيف، فالإسلام في جوهره رحمة، وعدم مشقة، ورأفة بالناس؛ إلا أن قومنا بإملاءٍ مشيخيٍّ، -وبأسباب أخرى نوضحها في قادم المقال- حَرَمُوا هذه: الرخص؛ وألينهم في ذلك تحريماً حرمها إيحاءً، وجرموا كل من تخول له نفسه أن يلجأ فيه باب الرخصة المبجلة المثابة بثوابٍ وافرٍ، حيث يقول نبينا عليه الصلاة والسلام فيها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ).
إذا تعلّق الأمر ببقيّة الأركان، لك كامل الحق في الأخذ بالرخص والتخفيفات، بل ستنشر ما بين يديك من دون حجب؛ حتى تقوم عليك القائمة، سترَبط النصوص وتُفصَّل وتبيَّن لتمرير الأحقية المأجورة لرخصة الأركان.
لكن لو تعلق الأمر بصيام شهر رمضان فستُحجب وتخفى عنك كل النصوص بقصد، ولن تجد إلا نصا واحدً قاطعاً، قال تعالى: (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) مع أنه نص يوحي بالاختيار وليس القطع في انفصاله عن صياغة الآية كاملةً، إنّ فهمه واستيعابه يتعلق بفهم ما سبقهُ وماتلاهُ من الآية قال تعالى: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [2]
الصومُ خيرٌ لكم: صوم الفريضة، وصوم التطوع، هو خير في كلتا الحالتين، وليس أنّ الآية لاغية للرخصة الربانية، كما يتأول كثير من أئمة الحال والواقع المشاب ويروِّجوا لذلك، بل إن الرخصة ذكرت في الآيتين 148 و185 إلا أن في الآية 184 ذكرت الرخصة ثم أتْبِعَت بالتطوع ثم مُدِحَ وعُظِّم الصوم بصفة عامة: صوم الفريضة وصوم التطوع، لكن المتأولون دائما ماينبشون عما يؤلونه ويشتتون به الصفوف والأذهان ويزيغوا به الناس عن جادة الحق!
أما ما يبرر ويجيز رخصة الصوم على كل مسلم توفرت فيه شروطها، فهو نصٌ صريحٌ واضح بيِّنٌ منفصل لم يضع مجالاً لتأويل حيث يقول تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [3]
"الإسلام دين يسر وليس عسر لكن هناك من العباد من هو مصِّر على عسره وتعسيره" من كان مريضا أو على سفر فواجبه العمل بالرخصة المأجورة التي أجْرها كأجر القيام بها والله يضاعف لمن يشاء كما نص الحديث النبوي آنف الذكر.
في هذا الركن بالتحديد من يتجرأ ليأخذ بالرخصة، أو يلوح بها يؤتى إيلاما: بدنيا، ولفظيا، لك الحق أن تقصر وتجمع وتؤخر وتتيمَّم. لك الحق أن تؤجل الحج، لك تسهيلات وتخفيفات في الزكاة، لكن أن تفطر في رمضان من باب الرخصة فهذا هو الكفران بعينه!ما تفسير هذا؟
سنجيب عن هذه السؤال بكل بساطة وبفهمنا القاصر الخاص أكثر منه شيء آخر، أولاً الإسلام في لبه التيسير والتسهيل والرحمة والرأفة بالخلق؛ لأن من خَلق رحمان رحيم، هو أرحم بنا من أمهاتنا.
ثانيا، الصلاة من حيث الترتيب في أركان الإسلام سابقة لرمضان، كما أنّها عمود الإسلام، ومع ذلك فيها ترخيص وفيها تسهيل، أما رمضان الركن الرابع من حيث ترتيب أركان الإسلام فلا رخصة فيه، وحتى وإن كانت فيه رخصة فلا أحد يأخذ بها خوفًا! مالذي يُخيف من رخصة رمضان؟
الإجابة عن هذا السؤال بلوغٌ لغاية المقال، للأسف الكثير من عباداتنا بعد أن كانت لله أصبحت لغيره، وخاصة رمضان شهر الفتوحات، الكثير من عباداتنا تحولت إلى عادات، وأكثر مايكشف ذلك رمضان.
أحيانا يفعل العرف والعادة مالا تفعله الشريعة، وهذا ما حدث مع رمضان الذي أصبح عند البعض عادة، صومه خوف وتحرز من المجتمع، وما سيحكم به علينا، وليس تعبدا، ولا تقربا لله.
نصوم لأنّ كل من في محيطنا صائمون، لأننا إن لم نفعل سيطالنا اللسان، وتبطش بنا اليد، وسيُشار لنا بالأصابع سخريةً ودونيةً، نصوم بلا صلاة ولا زكاة، ونلعن هذا ونسب هذا ونؤذي هذا وننسى هذا "الأخ في الإسلام المطارد المهان"، نصوم لنملأ البطون ونسمع أنين المحتاج والفقير.
لا صلاة لهم ولا خلاق، لكن إذا جاء رمضان أمسكوا عن الأكل والشرب فقط، وهم بالذات من ينطبق عليهم الحديث النبوي "رُبّ صائمٍ ليس له من صومه إلا الجوعَ والعطشَ".
نصوم لنزخرف الموائد بما لذَّ وطاب، وغيرنا من أبناء جلدتنا يتضوَّر جوعا، وحتى وإن عزمنا على مده بقليل لابد من صفعه في كرامته وإنسانيته بإرغامه على الظهور معنا في صورة عبوسةٍ تعيسةٍ تحكي قسوتنا وموت إنسانيتنا وضميرنا.
سوء الأدب مع القرآن في رمضان
تتجيش النفوس ذات البوصلة العاطلة، والعقول المسلَّمة تمام التسليم للغير ليضع فيها ما يشاء ويحركها كيف يشاء، لتسيء المعاملة مع خير كتاب أول مفردة نزلت منه "اقرأ" لكن هولاء بتوجيه مغلوط أبصروها "احفظ"، لذلك تراهم يتسارعون في عدد الختمات متناسين أنّ الأجر والفائدة في التدبر، والفهم، والتعقل لمفردات ومعاني هذا الكتاب العظيم؛ الذي جذب عقول وقلوب من لا ينطق بلغته أصلا.
من عرف القرآن حق المعرفة أعطاه قدره ومكانته، وعامله معاملة إحترام وتقدير.
رمضان عند البعض، أصبح محطة للتنافس المنفعي المادي على الكتاب الأعظم من يقرأه بصوت عذب؟ من يطرب به؟ من يقرأه كما أنزل شكلا؛ ليأخذ قدرا ماليا، ونسيَّ هولاء بإدراك أو بجهل منهم أن القرآن: روح ومعاني وجوهر، وأن الجوهر أعظم وأجل من الشكل بمسافات ضوئية مع عدم نكران أهمية الشكل طبعا.
كتابٌ جليل أنزل للفهم والتعقل، إنّ التأني والتدبر والتركيز أثناء قراءة القرآن هي الأصل الصواب وغيرها طارئ لا أساس له ومن لا أساس له كيف ستكون مخرجاته؟ إنّها ظاهرة جدا علينا!
ياسادة يا كرام الإسلام منبعٌ عذبٌ لا يتجزأ ولا ينفصل تأكدوا أن تأويلكم العليل يسيء له أكثر مما يخدمه، ليس في هذه المسألة فقط، بل في عديد المسائل، لذلك احذروا وابتعدوا مما قد ينجر عنه أسئلة محرجة، فالإسلام أكبر منكم!
[1] سورة الحج، الآية 32.
[2] سورة البقرة، الآية 148.
[3] سورة البقرة، الآية 185.