الحج .. الفريضة الخامسة، المؤتمر الجامع، ملتقى النسك والمعنى، نداء إبراهيم ورحلة المسلمين إلى الله.
في ظل هذا الوجود الإنساني المرهق، وهذه الورطة التي وجَد فيها البشر أنفسهم، ومذ لحظة الوعي الأولى بعِظم الأمانة التي حملها الإنسان وهو ظالم جهول، وسؤال الخلاص حاضر إلى جانب الوجود البشري لا ينفك عنه، يصاحبه في ذلك صورة العودة ورمزيتها التي صُبغت بها قصته على هذه الأرض، خلق الله آدم، أسكنه الجنّة، وبعد الخطيئة الأولى أنزّله الأرض، لتصبح العودة إلى الموطن الأصل له ولذريته من بعده، أسمى آمانيهم ومنتهى خلاصهم.
لكنّ البشر لمّا استطونوا الأرض، حارت بهم سبلها وتاهت بهم عن كل قصد، فكان أن ابتعث الله لهم الرسل والأنبياء، يذكرونهم بقصتهم الأولى، ويدلونهم السبيل للحاق بركب الراجعين، يذكرونهم أنّهم المنفيون مذ عهد أبيهم الأول، وأنّهم وإن كان لهم أن يعمروا هذه الأرض ويشيّدوا صُروحها، فإنّ صفة الرحيل ستظل ملازمة لهم لا تفارقهم، وإن وجدوا في هذا المنزل الذي نزلوه بعض معاني الأنس والراحة والأمان.
ولقد توارث الأنبياء هذه الرسالة، يخلف بعضهم بعضا، ويستكمل النبي خطى النبي حتى لا تضلّ البشرية سيرها إلى الجنة - موطنها الأول - حتى لا تضلّ سيرها إلى الله، وكان لابد لهذا السير من معلم، ووجهة، وقبلة، فكانت مكّة، وكان البلد الحرام، وكان النداء الخالد لأبي الأنبياء وخليل الرحمان ابراهيم عليه السلام: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" ومن هناك انطلق صوت الاجابة التي ملأت الآفاق، صوت الاستسلام الخالص، صوت موكب العائدين يردد: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".
ومن مكّة أيضا، كانت البشرية على موعد مع نداء آخر، يختم رسالة الأنبياء، ويقيم الحُجة على الناس بعد أن حُمل بأيديهم إلى طريق الحق، وأسمع محمد صلى الله عليه وسلم من على رؤوس الأشهاد أمته والناس جميعا: (أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ إخْوةٌ ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ، اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه ، أَلاَ هَلْ بلّغتُ، اللّهمّ اشْهَدْ. أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد" قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ والسلامُ عليكم ورحمة الله!)
هكذا أصبحت رحلة الحج في كل عام، رحلة تجديد ميثاق وعهد، وأصبح مسار الحجيج مسارا يذكّر النّاس برحلة العودة والرجوع؛ الرجوع للفطرة، والأوبة من بعد الخطيئة، والعودة كيوم ولدتهم أمهاتهم أطهارا. وارتبطت هذه الرحلة بسعي الناس للبحث عن المعنى وطلبه وسط عالم يضجّ بالصخب، كما ارتبطت بأسماء العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء ممن وجدوا فيها جواب أسئلتهم الحائرة، وصفاء أنفسهم الكدِرة، وبلسم قلوبهم بعد أن أعياها الطلب، وشوق أرواحهم للقاءٍ عتيق عتاقة البيت العتيق.
نأتي في هذا المقال على أسماء بعض منهم وعلى ما سطّروه من مشاهد ومشاعر وأشواق سردا ووصفا لرحلتهم إلى هناك.
"لبيك: حج الفقراء".. مالك بن نبي والحج طريقا للمقاومة
هي رواية للمفكر الجزائري مالك بن نبي، والعمل الروائي الوحيد له، جاءت بسيطة في أسلوبها بساطة أسلوب تناسب الناشئة أكثر مما تناسب قارئا جاء ليبحث عن نفسه في رحلة الحج المكتنزة بالمعني العميقة أثرا وشعورا. غير أنّ ما دفعني لأختارها هنا هو ما أراد مالك أن يمرره من خلالها في غمرة الصراع والكفاح من أجل الحرية والاستقلال في هذا القالب السردي. لاسيما وأنّ هذه الرواية جاءت كثاني كتاب له بعد "الظاهرة القرآنية" التي تعد باكورة أعماله، فهي بلا شك جاءت لتعزز اتجاهه في اشتباكه مع القضية التي عاش بها ولها: "نهضة الجزائر والعالم الإسلامي".
بعيدا عن قصة الرواية وأحداثها، فإن اختيار مالك بن نبي لموضوع الحج ليجعل منه موضوعا أدبيا وعملا روائيا كان اختيار ذكيا منه، لما تمثل فيه تجربة الحج من سبيل آخر للمقاومة والصمود. فالحج كشعيرة تنتظم لها الأمة الإسلامية وتمس الحياة الاجتماعية لمختلف شرائحها كان موضوعا جيدا لبيان مدى تشبث الشخصية الجزائرية بامتدادتها وجذورها الأصيلة، ومدى فشل المستعمر في محاولته لمحو هذه الشخصية واستلابها دينا وانتماء وهوية.
ربما لم يوفق مالك في سبر أغوار الشخصيات التي اختارها لروايته، ولم ينجح بقدر كاف في عرضها للقارئ في أحاديث وحوارات تجعلها اكثر تأثير وبيانا وقربا. (ابراهيم بطل القصة التائب المنتقل من عربدة الخمر لرحلة الحج، وهادي الفتى المغامر، والحاج محمد الشخصية السوية والمعيارية في القصة،
وزهرة المحبة والمضحية). لكنّه كان موفقا في اختيار هذا التنوع وفي رسم معالم القصة الكبرى، وكان قادرا على أن يجعل من الرواية عمل أكثر وقعا على النفوس لو منح لنفسه وقتا في اظهار شخصياته عبر مستويات حوارية أعمق وأبلغ دون أن يفرط في ملامح البساطة التي أراد لها أن تكون.
"الطريق إلى مكة" ... طريق هوفمان إلى الإسلام
مراد هوفمان الدبلوماسي والمؤلف الألماني، دكتور الحقوق الذي اشتغل لفترة طويلة في نقد فن الباليه، يروي في هذا الكتاب قصة إسلامه أو كما عبر عنها هو في مقدمة كتابه (هذا الكتاب يعنى بحقيقة الإيمان كما أعيشها أنا وأعايشها)، يتطرق كتاب هوفمان الذي يحمل عنوان "الطريق إلى مكة" إلى عرض عام لأركان الإسلام وأهم القضايا التي تحتل الصدارة في الحديث عنه (المرأة، الخمر، الترابط الاجتماعي، الإسلام في ألمانيا حاضرا ومستقبلا...) مع بداية الكتاب تجد نفسك مباشرة مع مراد في المطار في سرد مطرد، ممتع وجميل يجمع بين البساطة والعمق، ولا يترك تفصيلا إلا ويربطه بالسياق العام لرحلته "البحث عن الحقيقة" ثلاثون صفحة هي كل حكاية مراد عن رحلته لمكة، يجعلك فيها تعيش معه الحج كرفيق، يشاركك فيها قصصه، تأملاته، انتقاداته، بأسلوب لا يخلو من المتعة والطرافة أحيانا.. كذلك تستطيع أن تستشف من خلال قصته، اهتمامه البالغ بالفن وبالأخص العمارة فهو لا يدع فرصة تمر به إلا ويشير إلى المناحي الجمالية التي قابلها في رحلته.
"الكعبة مكعب مجوف خال تماما، مبني بأحجار ضخمة. إنها صورة معمارية لكمال بيت الله في أبسط صورة، بعيدا عن التعقيد الذي يبدو في الفن القوطي وفن الروكوكو".
"الحج الفريضة الخامسة" .. فلسفة المنسك والمعنى
التوحيد، الجهاد، والحج.. من هذه الدعائم الأساسية لعقيدة الإسلام -كما يراها- ينطلق بنا المفكر الإيراني الإسلامي علي شريعتي في عرض ملخص تجربته في الحج، في رحلة تبحث عن المعاني المستترة من وراء النسك، رحلة يحاول أن يجيب فيها عن سؤالين: مالذي تعلمه من الحج؟ وما ماهية الحج؟
" أنّ الحج عملية ارتقاء نحو الله، وذلك عبر استعراض خمس قضايا "الحج في جوهره هو عملية ارتقاء الإنسان نحو الله، وهو المظاهرة الرمزية لفلسفة خلق آدم، وبعبارة أوضح وأقرب: إنّ أداء شعائر الحج هو استعراض لعدة معان في وقت واحد، فهو "عرض لقصة الخلق"، وهو "عرض للتاريخ"، وهو "عرض للوحدة"، وهو عرض لــ"عقيدة الإسلام"، وهو "عرض للأمة".
هي رحلة المعنى، المليئة بالأشواق، الباحثة عن أجوبة القلب، المرتكزة على أرض الحكمة، سيصحبك فيها علي شريعتي بين نسك الحج وأركانه، فاتحا لك في كل مرة زاوية جديدة لترى الحج بأبعد مما كنت تراه.
"فريضة الحجّ هي التي تربط بين الطواف والسعي وتحل التناقض الذي أشكل على الإنسان عبر تاريخه، الماديّة أم المثاليّة، العقلانيّة أم الروحيّة، إرادة الإنسان أم إرادة الله، التوكّل على الله أم الاعتماد على النفس، هنالك يعلّمنا الله أنّ الإجابة هي: كلاهما"
"الطريق إلى مكة".. رحلة محمد أسد بحثا عن الحقيقة
"ما أرويه في هذا الكتاب لا يُعدّ سيرةً ذاتيةً لامرئ يشعر بالفخر لدور قام به في الحياة العامة، كما لا يُعدُّ رواية لمغامرات خضتها -على الرغم من أنني صادفت مغامرات عجيبة- فإنّها لم تمثل لي أكثر من مجرد أحداث مرافقة ومصاحبة لما يدور داخلي وما أصادفه، عدا كل ذلك فهو لا يُعدُّ قصة حياة رجل يفتش بقصد ونية عن إيمان عميق أو عقيدة بذاتها؛ فذلك الإيمان حلّ عليّ عبر رحلة السنين دون أن أسعى إليه.
حكايتي ببساطة هي حكاية اكتشاف رجل أوروبي للإسلام كدينٍ متكاملٍ في أيّ مجتمع إسلامي."
هكذا جاءت مقدمة الكتاب الذي يروي جزء كبيرا من حياة الكاتب والصحفي والمفكر والناقد والمصلح والدبلوماسي والرحالة المسلم "محمد أسد". متعة روح، ورحلة تأخذ بك من أول لقاء بصاحبها الباحث عن ملة ابراهيم الحقة لتعيش معه فصولها كاملة، ولاريب في ذلك إذ أنّ الكتاب من أجود وأحسن ما كتب في أدب الرحلات وفي كتب السير الذاتية. لم تكن رحلة من مكان لمكان فحسب، ولكنها رحلة عبرت مدنا، وبشرا وجماعات وأفكار ونقلت صاحبها من ضفة التيه إلى ضفة الإيمان.
تُرجم عنوان الكتاب للعربية في بعض الطبعات إلى " الطريق إلى الإسلام" والترجمة الصحيحة هي "الطريق إلى مكة" ورغم أنّ جملة ما تحدث به أسد عن رحلته إلى مكة، هو جزء يسير مما جاء في كامل الكتاب، إلا أنّه كان موفقا في نظري حين ربط كل رحلته وتجواله شرقا وغربا بقبلة واضحة هي "مكة"
“لقد وجدنا طريقنا وصممنا على ألا نفقده مرة أخرى..”
من مكة إلى لاس فيجاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة
"اقتربت (من المسجد الحرام) ناظرا لأسفل حتى نزولي إلى صحن المسجد. في هذه المرة عندما رفعت رأسي لأنظر إلى الكعبة أملا في أن أسترجع تجربة روحانية أتوق إليها، شعرت بالضآلة و القلة بل بالمهانة الإنسانية والعقائدية. كانت صدمتي الثانية عندما شوّش مجالي البصري تماماً الكتل الخرسانية الأسطورية لأبراج متوحشة، تم تسميتها أبراج البيت، تشق السماء بقسوة يتراجع معها كل شيء و يصغر ويتضاءل و يهمَّش، بما في ذلك الكعبة ذاتها."
هكذا يحكي الأكاديمي والمتخصص في العمران وتخطيط المدن علي عبد الرؤوف عن تجربته مع زيارة مكة، والأسباب التي كانت من وراء كتابته لهذا البحث الذي يعتبر من بين أرصن ما كتب في نقد سياسة المملكة العربية السعودية في توسعة الحرم المكي، وإهمالها للبعد الروحي وما يتضمنه من قداسة للمكان، جاعلة بذلك "أبراج البيغ بانغ" ذات الكتل الخرسانية الصماء الذاهبة في العلو المتجاوزة لكل مقدس تتماهى مع حضارة المادة والاستهلاك.
يأتي الكتاب في خمس فصول تؤسس لأطروحة الكاتب ونقده للسياسة المتبناة في ما يتعلق بالجانب التخطيطي والعمراني لمدينة مكة، وفي القلب منها توسعة الحرم المكي. يتعرض في الفصل الأول لتاريخ المكان وقداسة العمران، ثم يأتي في الفصل الثاني للحديث عن مفاهيم العمارة المقدسة متحدثا في ذلك عن فلسفة الحج وتجربة الحجيج ومدى تأثيرها وتأثرها بالعمران. ثم ينتقل في الفصل الثالث عن نوايا التحديث واشكاليات التشويه (أبراج مكة)، ثمّ يتحدث في الفصل الرابع والخامس عن موضوع الكتاب الأساسي الذي حمل عنوانه وهو المقاربة بين الاتجاه العمراني الذي يصبغ مدينة لاس فيغاس ومدى علاقته مع ما يجري في مكّة الآن.
دون أن يغض الطرف في معرض كتابه عن الجانب المشرق للتوسعة، والاهتمام بالجوانب المادية المساعدة على أداء المشاعر في راحة ورخاء، إلاّ أنّ الأمر بات من جهة أخرى لعبة مصالح ودر أموال وجشع ألغى معه تراث المدينة ومازال يستمر في طمس كل معالمها. الأمر خطير، وناقوس الخطر كان يجب أن يدق منذ زمن، واسترجاع مكة في عمرانها وقداسته لا يقل أهمية وضرورة عن استرجاع القدس.