لقد فطن المسلمون منذ العصور الأولى إلى أهمية اكتساب العلم وكانت لهم الريادة في العديد من المجالات العلمية بما في ذلك الطب، وقد اختلف حال التعليم والصحة والبحث العلمي في عصرنا الحالي، إذ لا تزال معظم الدول الإسلامية متخلفة.
نتناول في هذا التقرير واقع العالمين الإسلامي والعربي في مجال البحث الطبي، كما نقف عند أهم الأسباب المفسرة لركوده، ونختم في الأخير ببعض الاقتراحات التي طُرحت لتحسين الإنتاج العلمي الطبي.
أهمية البحث العلمي في المجال الطبي
تهدف البحوث الطبية والسريرية إلى محاولة سد الثغرات المعرفية عبر طرح أسئلة لم يتم الإجابة عليها من قبل، وبالتالي التوصل إلى إجابات كلية أو جزئية من شأنها تحسين الوضع الصحي للمرضى وتغيير الطريقة التي يعمل بها أخصائيو الرعاية الصحية. فالعديد من الأمور التي نعتبرها الآن من المسلمات كاللقاحات الواقية من الأمراض المعدية والعلاج الكيميائي والعمليات الجراحية وغيرها من طرق العلاج كانت نتيجة أبحاث ودراسات طبية أجريت في الماضي.
توفر هاته الأبحاث معلومات مهمة حول المرض وعوامل الخطر المرتبطة به، مما يسهم في اكتشاف وسائل جديدة للتشخيص قادرة على الحد من تطور المرض وتقليل عدد المصابين به، بالإضافة إلى ذلك، يُمَكِّن البحث الطبي من ابتكار سبل الوقاية من الأمراض لدى الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة بها.
سعيا إلى رعاية صحية عالية الجودة، تقوم التجارب السريرية مثلا باختبار فعالية التدخلات الطبية والآثار المترتبة عنها، بالإضافة إلى تطوير أدوية وتقنيات فعالة لعلاج المرضى، إذ أن المجتمع العلمي الطبي غير قادر على تحديد ما إذا كانت العلاجات الجديدة أفضل من العلاجات الحالية دون اللجوء إلى مثل هذا النوع من الأبحاث.
بفضل التقدم المحرز في مجال الرعاية الطبية والصحة العامة، ارتفعت معدلات البقاء على قيد الحياة بشكل لافت، فقد وجد خبراء الاقتصاد أن الأبحاث الطبية تحسن صحة الفرد مما يؤدي إلى زيادة إنتاجية السكان، وبالتالي المساهمة الفاعلة في نمو الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية المستدامة، هذا إلى جانب الفوائد المجتمعية والفردية التي تترتب عن تحسين جودة العيش وخفض تكاليف الرعاية الصحية. [1-3]
في ظل غياب ثقافة بحثية حقيقية، تعمل معظم كليات الطب والجامعات في بلداننا على نقل المعرفة "المستعملة" ويؤثر هذا "الاستهلاك المعرفي" للإنتاجات العلمية سلبًا على جودة التدريس، حيث أنه يساهم في تكوين طلبة يفتقدون في غالب الأحيان للحس النقدي العلمي المتمثل في فحص المعلومة والنظر في مصادرها وتقويم مدى أصالتها.
أين نحن من العالم في خريطة البحث الطبي؟
اتفقت الدراسات التي تناولت موضوع البحث العلمي في المنطقة على قلة إنتاجية البحوث الطبية، ففي الوقت الذي خطت فيه آسيا وأمريكا الجنوبية خطوات لافتة في الإسهام في الإنتاج العلمي خلال العقدين الأخيرين وبدأت في الالتحاق تدريجيا بركب أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، يظل جل العالم العربي والإسلامي متخلفا ولا يزال البحث الطبي الحيوي المتقدم غائبا في معظم أنحاء المنطقة باستثناء تركيا وإيران.[4–8]
في ظل غياب ثقافة بحثية حقيقية، تعمل معظم كليات الطب والجامعات في بلداننا على نقل المعرفة "المستعملة" ويؤثر هذا "الاستهلاك المعرفي" للإنتاجات العلمية سلبًا على جودة التدريس، حيث أنه يساهم في تكوين طلبة يفتقدون في غالب الأحيان للحس النقدي العلمي المتمثل في فحص المعلومة والنظر في مصادرها وتقويم مدى أصالتها.
أظهرت دراسة[4] Benamer et Bakoush, 2009 أن الدول العربية تتخلف في عدد المنشورات البحثية الأصلية وعدد المنشورات في المجلات الطبية عالية التأثير، وكذلك في تردد الاقتباس (أداة مهمة لتقييم تأثير البحوث وجودتها) مقارنة مع دول شرق أوسطية أخرى.
كما كشفت دراسة[6] El azami et al, 2013 أن عدد المنشورات الطبية الصادرة عن المؤسسات في جميع الدول العربية البالغ عددها 22 دولة بين عامي 1996 و2012 هو 41776 تقريرا، وهو ما يعادل حوالي نصف المنشورات التركية وما يقارب 4% فقط من المنشورات الطبية من المؤسسات التي تتخذ الولايات المتحدة مقرا لها، ونفس العدد المنشور من طرف الكيان الصهيوني وضعف منشورات إيران كما هو مبين في الجدول.
أوضح تقرير «Scimago 2013» لتصنيف المؤسسات الذي تضمنته الدراسة ضعف مخرجات البحوث الطبية وغياب تأثيرها الواسع، فمن بين 2740 جامعة ومؤسسة بحثية في جميع أنحاء العالم، 60 منها فقط من الدول العربية.
في نفس السياق، أبانت دراسة[7] Rassi et al, 2018 أن الدول العربية نشرت ما مجموعه 97876 بحثا في الفترة ما بين 2007 و2016، حيث أن الأبحاث المنشورة في هاته الدول مجتمعة شكلت 1,6% من الناتج العالمي في نفس الفترة، أما بالنسبة لعدد الأوراق البحثية لكل مليون شخص، فقد نشرت المجموعات البحثية العربية 189 ورقة لكل مليون شخص، مقابل 695 ورقة بحثية لكل مليون شخص للباحثين في جميع دول العالم باستثناء الدول العربية، كما هو موضح في الجدول أسفله الذي يشير إلى مخرجات البحوث الطبية من قبل دول العالم. تم تصنيف الدول بالترتيب التنازلي حسب الأوراق لكل مليون شخص، ويقتصر ذلك على أول 25 دولة.
وحسب نفس المصدر، فقد زادت إنتاجية الباحثين في العالم العربي بمعدل أسرع أي بحوالي 3 أضعاف مقارنة بباقي دول العالم خلال نفس الفترة الزمنية، إلا أنه رغم هذا الارتفاع الملحوظ في معدلات النشر، لا تزال المنطقة متخلفة عن باقي العالم.
تجدر الإشارة إلى أن ماليزيا لما أطلقت الخطة الماليزية التاسعة (2011-2015) أنشئت ستة معاهد رئيسية للبحوث الصحية، وبالمثل، تمتلك المملكة العربية السعودية والكويت أكبر عدد من المنشورات الطبية الحيوية في دول مجلس التعاون الخليجي، لكن 0.5٪ فقط من الأبحاث السعودية تظهر في أهم 200 مجلة من حيث التأثير.[8] رغم الاستثمارات الكبيرة في إنشاء البنية التحتية وتمويل الأبحاث، ما زالت دول الخليج في حاجة إلى وجود قاعدة مهمة من الباحثين الملتزمين. [5]
ما هي الأسباب التي تُفسر تخلف الأمة في البحث الطبي؟
من بين أهم الأسباب التي فسرت ندرة الأبحاث الطبية الحيوية في العالم العربي والإسلامي نذكر:
عدم الاستقرار المستمر والنزاعات الإقليمية
أدت الحرب المفتوحة في بلدان مثل سوريا واليمن وليبيا إلى تعطيل الأبحاث وعرقلتها. كما دفعت الأوضاع السياسية المتأزمة الباحثين من ذوي الكفاءة إلى الهجرة خارج أوطانهم بحثاً عن آفاق تحتضن طموحاتهم المهنية والأكاديمية. ومن جهة أخرى، فإن الخوف من امتداد الفوضى إلى بلدان أخرى مجاورة كبح مطالب الإصلاح السياسي التي تدعو إلى النهوض بأوضاع البحث العلمي.
ضعف التمويل والتشجيع
لقد ناضل الباحثون في منطقتنا في سبيل القيام بأبحاثهم بموارد محدودة حيث يميلون إلى القيام بذلك كنشاط فردي استجابة لفضولهم المعرفي وبغية تحقيق التقدم الوظيفي.
تظل المنح الفردية متواضعة، حيث تسمح لعدد قليل من الباحثين بالتعاون وإنتاج بعض المنشورات وربما التواصل مع بعض العلماء لحضور لقاءات ومؤتمرات بالخارج، وبالتالي لا ترقى لتطلع الباحثين الراغبين في جمع بيانات أكثر شمولا والانضمام إلى شبكات ومنظمات علمية دولية، لذلك غالبا ما تكون فرص التمويل المحلية غير كافية لجذب الباحثين.
كشفت دراسة[9] Currie-Alder et al عن تأثير التمويل على هيكلة وحجم البحث من خلال اعتماد معايير انتقاء، من بينها اختيار المستفيدين من المنح انطلاقا من قدرتهم على النشر في المجلات الدولية، وذلك بغرض تحسين مكانة البلاد في التصنيف العالمي. بالإضافة إلى ذلك، يرى الباحثون أن التمويل العام يكون أقل تشجيعًا للأبحاث الموجهة للنشر المحلي ولا يدعم المشروعات البحثية التي تهتم بما هو خارج إطار التخصصات والمناهج القائمة، على سبيل المثال فإن المشروعات البحثية الكبرى التي تتجاوز ما هو نظري وتسعى إلى جمع البيانات الأصلية وإجراء التجارب وتصميم نماذج أولية حقيقية، تحصل على فرص التمويل على حساب الاستقلال الذاتي للباحثين إذ يتم تحديد تركيز الجهود البحثية كما تواجه هاته المشاريع عراقيل تنظيمية وإدارية تتدخل في تنسيق النشاط البحثي المعقد.
غياب التعاون الإقليمي
تهدف بعض الدول إلى إنتاج بحوث عالية الجودة عبر برامج شراكة مع جهات ذات كفاءة علمية في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا، إنّ هذا التوجه نحو التعاون الخارجي كوسيلة للرفع من الإنتاجية يتجاهل فرص التعاون الإقليمي، بالرغم من وجود خلفية مشتركة والعديد من أوجه التشابه كالمناخ والجغرافيا والتاريخ، كما أن المنطقة تواجه في المجمل نفس التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
هناك عوامل أخرى مساهمة أشارت إليها الدراسات والتي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار إذا كانت حكومات المنطقة ترغب في تحسين وضع البحث الطبي من بينها: الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة للأجهزة والمعدات، هجرة الأدمغة، سوء الإدارة والتدبير، نقص القيادة العلمية، الحاجة إلى الحرية والديمقراطية، صعوبة نشر البحوث ذات الاهتمام المحلي في المجلات الدولية المهمة، نقص العلماء الشباب الملتزمين، عدم توفير بيئة مناسبة وموارد كافية لأصحاب الخبرات.
ما هي أهم الحلول المقترحة للدفع بالبحث الطبي؟
بات النهوض بشؤون البحث الطبي من الأولويات الملحة إذا أردنا الرفع من جودة الحياة وتقديم رعاية صحية تتناسب وآمال الأفراد في الوطن العربي والإسلامي، ولن يتم ذلك دون وجود إرادة حقيقية وتكاثف جهود جميع الجهات من علماء وباحثين وصناع القرار لاقتراح خطط استراتيجية تضمن وضع المنطقة على خارطة البحث الطبي، في انتظار ذلك، نقدم فيما يلي أبرز الحلول التي اقترحتها الدراسات:
تشجيع ثقافة البحث في المجتمع بدءًا من المستويات الأولية، وذلك عبر إدراج مهارات البحث في المناهج التعليمية من تفكير نقدي وتخطيط استراتيجي، وبالتالي تحضير الأجيال الصاعدة لتحديات المستقبل عبر التحفيز على المشاركة الفعالة في العملية البحثية.
تدريس مبادئ البحث العلمي في كليات الطب وإدراج أحدث نتائج البحوث في الفصول الدراسية، بالإضافة إلى إشراك الطلبة في أنشطة البحث الخاصة بالكلية.
انخراط المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون المرضى في تثقيف الجمهور حول أهمية البحث ودوره في الرعاية الصحية، وكذلك تقديم شرح مبسط لكيفية إجراءه وذلك بالتعاون مع الحكومات والجامعات المحلية.
تطوير البحوث الطبية الحيوية الأساسية عبر إنشاء مجموعات تعاونية إقليمية تهتم بالأبحاث السريرية، وبالتالي الاستفادة من خبرة بعض الجهات المنتجة لأبحاث عالية الجودة، بالإضافة إلى تأسيس شبكات تسمح بانتقال الباحثين والطلاب والتقنيين.
تأسيس معهد إقليمي عابر للحدود لتمويل البحث الطبي الحيوي مستوحى من المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة ومجلس البحوث الأوروبي، يتم تمويله من قبل الجهات المانحة والحكومات والمؤسسات لوضع استراتيجيات تعزز البحوث الطبية في المنطقة بالتعاون مع المؤسسات الدولية.
دعم السير السلس لجميع مراحل البحث عبر سن قوانين تسمح باتخاذ قرارات سريعة وتسهل الإجراءات الجمركية والاتصالات الدولية.
زيادة عدد المنشورات مع الحرص على تحسين جودتها ويستلزم ذلك بناء القدرات في إجراء البحوث الطبية سواء على مستوى الأفراد أو فرق البحث أو المنظمات أو المستوى الوطني.
تعزيز برامج التمويل الوطنية وتوفير البنية التحتية للبحث بما في ذلك الهيئات التنظيمية والإشرافية.
وضع برامج الدكتوراه وما بعد الدكتوراه وتعويضات تحفيزية لأعضاء هيئة التدريس.
وضع خطط قصيرة وطويلة الأمد من طرف كليات الطب لتحسين تأثير البحث المحلي.
الاستفادة من تجربة الدول التي لديها موارد اقتصادية مماثلة لتلك الي تتوفر عليها البلدان العربية والإسلامية لكنها تفوقت في مجال البحث الطبي والحيوي.
تسهيل العثور على الأبحاث والوصول إليها عن طريق استخدام المؤسسات والمؤلفين لوسائل التواصل الاجتماعي، إذ يفترض أن يزيد ذلك من تأثير الاستشهاد.