في مساء يوم، اجتمع أفراد الأسرة حول مائدة العشاء، ودارت بينهم دردشات حول مواقف وأحداث، مرّ بها المجتمعون خلال الأسبوع، لكنّ موضوعا واحدا شدّ الانتباه، واستدعى تركيز الجميع، وهو فوز أحد الرياضيين بالميدالية الذهبية في ألعاب الأولمبياد.
وكان "عبد الله" قد طرح هذا الموضوع، بعد أن شاهد تقريرا تلفزيونيا، يحكي قصة كفاح ذلك اللاعب، ويصوّر ظروفه الصعبة التي عانى منها، والتي كادت أن تغلبه، لولا إصراره وصبره، ولولا الضوابط والقيود التي ألزم بها نفسه، إلى أن نال المركز الأول، وحصل على الجائزة الكبرى.
استمعت الأم إلى الحديث الشائق، وأرادت أن تشارك بلفتة بسيطة، ترسل من خلالها عبرة، تبقى في ذهن الأبناء، كدرس يستفيدون منه في حياتهم.
قالت، وقد اكتسى وجهها إشراقة الحديث عن النجاح: لا شكّ أن الفوز نتيجة يطمح إليها من سعى، ومن لم يسعَ، لكن لن يناله إلا من عَمِل له، وتعب لأجله، وألزم نفسه بضوابط، تضمن له الوصول، ونيل المقصود.
أثار كلام الأم شيئا في نفس "عبد الله"، فقال بنبرة فيها شبهة اعتراض: لكن يا أمي، إن فكرة التقيّد والانضباط تحدّ من حرية الشخص، وتكبّله، وتُفقده أعزّ ما يملك: وهي حريته في أن يجرّب ويخطئ ويتعلّم!
ابتسمت أم عبد الله، وأجابت على استنكار ولدها، قائلة: كلامك وجيه يا بني، لكن تعال نضرب مثالًا حتى نقرّب الفكرة.. لو أنّك أردت أن تذهب لمقابلة شخص مهم، سيكون له تأثير على مستقبل مهنتك، وقد أُعطيتَ فرصة لقائه بعد مشقة بذلتها، فضرب لك موعدا في ساعة محددة، وهو يسكن في منطقة بعيدة لا تعرف كيف تصل إليها، أنت الآن مطلوب منك أن تصل إلى المكان المحدد في الوقت المعين لك، وطريقك طويل ومجهول، فهل ستُحدّث نفسك قائلا: "لن ألتزم باليافطات الدالة على الاتجاهات في الطريق، ولن أُحَمِّل تطبيق الخريطة الالكترونية على هاتفي، سأجرّب بنفسي، لن أضحّي بحريتي في أن أخطئ وأصيب، ولن أقيد نفسي بتلك الضوابط!"، قل لي يا ولدي، هل ستقول هذا الكلام؟!
نظر عبد الله إلى أمه مستغربا، ثم قال مؤكّدا: طبعا لن أقول هذا الكلام يا أمي، على العكس من ذلك، سألتزم بإشارات الطريق، لإيماني بأنها وُجدت لتوفّر عليّ الوقت، وتحفظني من الضياع، ومن أن أُهدِر طاقتي ومواردي المحدودة، وبأنّ كل تلك التوجيهات هي لصالحي، وستنفعني حتما، ولا يمكن أن أعتبرها مصادرة لحريتي، بل هي ضمان لي، كي أصل إلى مبتغاي في الوقت المحسوب.
ارتسمت ملامح الرضا على وجه الأم، وختمت المحادثة بقولها: وفقك الله يا ولدي، إذا كان ما ذكرتَه منطق وجائز في أمر من أمور الدنيا، فكيف بمن كان رجاؤه أن ينال المراتب العليا في رحلته إلى الآخرة، ويكون عند الله فائز؟!