يستخدم عالم الاجتماع البولندي زيغموند بومان مرارًا كلمة "liquid"رفي عناوين كتبه التي ترجمت إلى العربية تحت إسم " السوائل"، اسم يلفت انتباه كل قارئ دون شك، النقطة المهمة في استخدام باومان لكلمة سائل هي أنه أراد أن يعبر عن شيء مختلف عن "ما بعد الحداثة"؛ باومان يدرك تماما دلالات "ما بعد الحداثة" إنها دقيقة تمامًا ، لكنها لا تشير بما فيه الكفاية لمراد باومان الذي يريد أن يخبرك أننا لم نعد "حداثيين" فقط ، لكننا لم نعد "نحن" أيضا.
في ظل تغيُّر صورة المجتمعات المعاصرة ومقومات العيش ضمن حركة لا تتسم بالاستقرار ـالصلابةـ حيث كل شيء يمكن أن يحدث، ولكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان، فتتولد حالة من اللا يقين تجمع ما بين الإحساس بالجهل والعجزوالإحساس بالخوف؛ دون أن نستطيع إدراكه ولا تحديده (من كتاب الحداثة السائلة زيجمونت باومان)، يطلق زيغموند باومان هذه الدارسة ليصف وضع حياتنا في العالم المعاصر، وهي تعاني من تحول هياكل المجتمعات من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة، ليرصد ممارسات الفرد والمجتمع والدولة في: الأزمنة السائلة أو كيفية العيش في زمن اللا يقين.
الأزمنة السائلة: أحد الكتب التفسيرية لمشروع باومان التقويمي لمابعد الحداثة إذ يمثل دراسة حالة المجتمعات في ظل تفكك النظم والمبادئ والقيم، وتخلخل الروابط التي كانت تجمع المواد الصلبة (الأخلاق والمرجعيات والقيم). فقد باتت المرجعيات الكبرى المحددة سلفًا تتبدل وتتغير وفقًا للمصلحة الفردية المتغيرة دومًا، والتي لا يمكن التنبؤ بها. تشبه المواد السائلة التي يتغير شكلها بتغير الحيّز الذي توضع فيه. فالحداثة السائلة كما يعرّفها في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه تعني: الإيمان المتنامي بأن التغير هو الثبات الوحيد، وأن اللا يقين هو اليقين الوحيد.. وأن غاية الحداثة ليست الكمال بل مجرد التقدم والتحسين دون الحاجة للوصول إلى الكمال.
يضع باومان في هذا الكتاب عينه النقدية على تحولات مفاهيمية واجتماعية وسياسية سادت أزمنة ما بعد الحداثة فعبر عن رؤيته في:
مخاوف الحياة السائلة
أدى تلاشي الحدود ـ عدم احترام حدود الدولةـ الذي كرسته العولمة ـ في السعي لإنشاء "مجتمع مفتوح" كان بدايته بإنشاء "سوق حرّ"ـ مستغلة أدواتها السياسية والاقتصادية والثقافية من أجل اختراق الحدود الصلبة لبعض الدول التي قاومت وتصلبت هوياتها في وجه العولمة السلبية لا تضمن الدولة فيه أمنها الداخلي إذ تكون مهددة دوما بالاختراق تحت ذرائع خلقتها أجهزة الدول الكبرى تحت أسماء عديدة ك : الحرب على الإرهاب، موجهة العنف المحتمل، حماية الأمن القومي، القضاء على الأنظمة الاستبدادية.. وإن مثلت هذه الحالة وصفا لمدى بشاعة وخطورة ما بشرت به دوما ووصلت إليه الحداثة والرأسمالية فإنه يصف مخاوف الحياة السائلة فقد تحولت فكرة التقدم إلى واقع مرير وجبرية متطرفة، بعدما كانت أبرز تجليات التفاؤل والأمل الكبير بتحقيق " السعادة الدائمة للجميع"، فصارت ترمز إلى تهديد دائم وحتمي لا يبشر تحقيق السعادة والسكنية بل ينذر بالشدة والمشقة ويمنع لحظات الراحة، مثل لعبة الكراسي الموسيقية التي تؤدي الغفلة اللحظية فيها إلى هزيمة واستبعاد نهائي(ص34). إننا كما يقول باومان : عاجزون عن خفض السرعة المذهلة التي يسير بها التغييرـ التلاشي، التيه، والانفتاح ـ إن هذا يؤدي من حالة من التيه والتفكك يضرب فعليا بنيات كبرى كانت يوما ما تمثل الصلابة ؛ على حد قول باومان فإن أبرز تجلياتها : انفصال السلطة الحاكمة عن السيطرة الفعلية على مقاليد السياسة، فهذا المجتمع أصبح عاجزا عن حماية المسار المختار بمجرد اختياره(ص30) في مواجهة قوى عالمية تفرض نفسها بالقوة بمنطق اللا قانون.
إن أحدى مخاوف الحياة السائلة هو الشعور باللا أمن الذي انتقل عبر الخوف من نتائج العولمة السلبية، فأصبح الخوف البعيد جغرافيا يهدد المناطق المتباعدة نتيجة الانفتاح على العالم ففي تصريح دونالد رامسفيلد قبل إرسال القوات الأمريكية للعراق يقول: إننا سنكسب الحرب عندما يشعر الأمريكيون بالأمان من جديد!! إن هذا يحيل مباشرة إلى ما قررناه حول الوضع الخطير الذي أوصلتنا إليه الفكرة الرئيسية للعولمة وهي "الانفتاح" أو "عالم بلا حدود" إذ أصبح الظلم والبؤس واللا أمن عابرا للحدود، وليس فقط من الدول المتخلفة إلى الدول المتطورة بل كذلك أصبح تصدير المخاوف من الدول الأخيرة إلى دول الفقر والعجز.
الاستثمار في الخوف: الحديقة الخلفية للدول الأوروبية
تدور الفكرة التي أراد باومان طرحها حول مقولة آدم كيرتس: لا توجد وحوش مرعبة جديدة، بل يوجد استمرار لداء الخوف.
لا يختلف الأمر كثيرًا مع شركات الدواء والسيارات وشركة الأمن والحراسة في توظيف الخوف اللا متناهي الذي تتصف به حياتنا المعاصرة من كل شيء لتكسب ثروات هائلة كما لا تختلف هذا النوع مع التخويف بالإرهاب أو من خطر اللاجئين على الحدود إذ تمثل الحديقة الخلفية في النظرية السياسية ويشير باومان (ص55) إلى جانب آخر للحروب في الدول النامية / أراضي أعضاء الحداثة المتأخرين؛ عبر شن حروب تفرض العولمة وتضرب استقرار مزيد من المجتمعات الصلبة، والتي تساهم في إنتاج فائض بشري يكتسح الحدود الأوربية ـ شباب وعاطلون عن العمل ـ يشير زيجمونت باومان إلى أن عملية استقبال اللاجئين، ومنحهم حق اللجوء، تخضع لعملية عقلية تستند إلى مصالح الدول المستضيفة، ومدى حاجتها إلى القوى والموارد البشرية، خاصة مع انخفاض نسبة المواليد بين سكانها في القارة العجوز، وحاجتها لسد النقص من الأيدي العاملة، وقد خضع هذا القبول إلى «دراسة كفاءات اللاجئين» وحاجة السوق الأوروبية إلى تلك الكفاءات إنها طرق جديدة للاستفادة من النفايات البشرية كما يسميها باومان.
ربما تكون الصناعة الرائجة الوحيدة في أراضي أعضاء الحداثة المتأخرين، أو ما يسمى كذبًا وتضليلًا باسم الدول النامية، هي إنتاج اللاجئين بالجملة كما عبر باومان هي صناعة غير مباشرة لدول العولمة التي تساهم في صنع لاجئين قد تحولهم تلك الدول إلى أصناف ثلاثة : 1ـ فائـض سكاني يمكن دمجه، حيث يمكن الانتفاع من هذا الفائض وجعله مفيدا للمجتمع ـ علماء، لاعبين، رجال أعمال..2ـ فائـض سكاني يمثل " جيش العمل الإحتياطي" (ص53) وهم في حالة مؤقتة يمكن الإستفادة منهم في أقرب فرصة 3ـ النفايات البشرية غير قابلة للدمج: وهي ضحية امتلاء الحظيرة ـ أورباـ وضحية حروب ما بعد 11 سبتمبر 2001 حيث يرفض الغرب دمجها وذلك بسنّ قوانين جديدة تحد من عبورهم للحدود (ص57 ) أو عبر حصرهم في الدول الأوروبية الأقل تقدمًا، مثل: اليونان والمجر أو إنشاء مراكز الإيواء المحصنة على أطراف الغابات وبعيدًا عن المراكز الحضرية، هذه المخيمات التي أقيمت على أنها مخيمات "مؤقتة" تتحول إلى دائمة في وقت لا يمكن لهؤلاء اللاجئين العودة إلى وطنهم الذي تآكل بالمعنى الحرفي وأصبح وطنا مفقودا/ فضاء بلا قانون (ص58) / لادولة/ ساحة للحرب، أو كما عبر ميشيل أجير في وضع معلق لا تتحدد فيه مكانتهم الاجتماعية. فبعد مرور سبعين سنة على نكبة فلسطين ما زال مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في الأردن شاهدًا على عصر اللجوء يشخص باومان مشكلة اللاجئ ـ في مشهد تراجيدي ـ أنه " في الطريق إلى المخيمات يجرد اللاجئ من كل عنصر فريد من هوياتهم ما عدا عنصرا واحدا ألا وهو اللاجئ ((غير الشرعي)) الذي : لا وظيفة له ولا مكان ولا دولة.. فإذا ما أصبح الفرد لاجئا فإن ذلك يعني فقدان السب التي يقوم عليها الوجود الاجتماعي " أي الفرد اللاجئ الذي أفرزته المخيمات /العولمة في نظر باومان لاجئ من نوع جديد يفقد فيه كل عناصر الهوية اللاجتماعية : المنزل، الأرض، القرية،الوظيفة.. تساهم في ذلك ما يعرف ب وكالات الإغاثة أو العاملين في مجال المساعدات الإنسانية (ص61) إذ أن الدور المنوط بهؤلاء هو التخلص من الفائض غير الكفء في المخيمات بتكلفة أقل، إذا ففي الوقت نفسه التي تفقد فيها الهوية صلابتها في خيمات اللاجئين تتشكل من جديد على مستوى آخر إذ يغدو التواجد في المخيمات والعيش على المساعدات جزء من الهوية الجديدة ويغدو اللاجئ تجسيدا حقيقيا لما يسميه باومان بالنفايات البشرية" بشر بلا وظائف" فئة تقف على الحدود من العالم.
إلا أن مشاكل اللاجئين لا تنتهي إلى هذا الحد فهم التجسد الحقيقي لما نسميه النفايات البشرية (ص62) وهم التجسد الحقيقي كذلك لما سماه جيجك بالبشر غير المرغوب فيهم، فهم يولدون ويعيشون بلا وظائف نافعة ويتعرضون إلى نقيضن حسب توصيف باومان(( رأفة جماعة من الناس وكراهية آخرين)) إن هذا المعنى الأخير هو الذي اشتغلت عليه القوى السياسية في الدول المستقبلة في عصر أفول الأفكار الكبرى أي معنى : الاستثمار في الخوف من اللاجئين وذلك بتأجيج الأحقاد السائدة ضد مجموعة اللاجئين ـ للتغطية عن المشاكل الحقيقية للبلدان الأوربية ـحيث حلّ "طالبو اللجوء" محل الساحرات الشريرات وأشباح الأشرار، الذين تستغل بروباغندا السلطة هذه الأحقاد لترويج سياستها لومن أبرز أمثلته تصاعد أحزاب اليمين المتطرف ـ يعرف اليمين بتعصبه ضد المهاجرين ـ في فرنسا وإيطاليا وألمانيا بلجيكا ـ أصبح يهدد المهاجرين القدامى أيضاـ فبعض الأحزاب تعد بترحيل تلك «النفايات البشرية» كما تسميها إلى بلادها أو إلى بلاد أخرى بعيدة عنها، ليبقى النسيج المجتمعي في البلدان المتقدمة متجانسًا.
إن السمة الأخرى ـ المشكلةـ التي تتميز بها مخيمات اللاجئين حسب باومان ـ اعتمادا على تحليلات ميشيل أجيرـ هي الحالة المؤقتة السائلة : استمرار اللحظة العابرة والوجود المؤقت الذي يتساءل باومان عن إمكانية اعتباره نموذجا للحياة السائلة؟(ص69) أن باومان بتعبير آخر كشف عن وهم جديد أنتجته أوروبا في أزمنة اللايقين ـأزمنة السيولةـ هي أزمنة فقدت فيها الأفكار الكبرى صدقيتها فصار وهم الخوف من شبح العدو" الدخلاء" هو كل ما تبقى للساسة حتى يحافظوا على سلطتهم . إن مشكلة اللاجئين التي صنعتها الدول الأوربية في إطار محاربتها للأنظمة الشريرة والتي استفادت منها (يد عاملة رخيصة، سوق اقتصادية تابعة..) أصبحت اليوم تشكل بالنسبة لها نفايات بشرية؛ فشلت الأدوات القديمة للحداثة في صدها عن الدخول إلى الحدود الحصينة في حين أنها مضطرة للقبول بالقليل منهم للقيام بالأعمال المنحطة اجتماعيا، والمشهد الختامي يظهر أن ما بعد الحداثة وضعت أوربا في مأزق أخلاقي تضطر فيه للتخلي عن وهم (( الرجل الأبيض المسؤول عن تنوير بقية العالم))
أوروبا .. " نحن" المهددة دائما
في زمن الذي زادت فيه أساليب الحماية الشخصية أصبح الخوف من السمات البارزة للفرد الأوربي يوضح باومان أن " نحن" المدللين تحديدا من دون الناس أجمعين نشعر أننا أكثر عرضة للتهديد وفقدان الأمان والخوف وأكثر اهتماما بالتفاصيل المتعلقة بالأمن والأمان..وقد توصل بومان إلى أن الطلب اللامتناهي للأمان سبب حالة مرضية حسب كاستل لا تصدر عن ندرة الحماية إنه يتشكل بالظن السيء في البشر ونواياهم، كما أنه يعود بالأساس إلى تحولات تخص تنامي شعور الأفراد بأهميتم ـ تقدير المفرط للذات ـ وتخص تداعي دور الدولة الاجتماعي المتعلق بحماية الأفراد المجردون من وسائل الحماية الذاتية : يتعلق الأمر أولا ب: الروابط الاجتماعية حيث تعمل الأسرة، الأصدقاء كأداة حماية ضد تهديدات معينة. ثانيا : تجرد الدولة الفرد من إمكانية الدفاع عن ذاته خاصة الدول البوليسية
ولدت المخاوف الأولى ذات الطابع الحديث في أثناء الجولة الأولى من تحرير السوق وسيرورة النزعة الفرديةـ كما عبر باومان (ص86)، لكن الحداثة الصلبة استطاعت التغلب على تلك المخاوف بإحلال التضامن محل الانتماء كضمانة أساسية للحياة. لكن الجولة الأخرى من تحرير السوق التي بدأت في السبعينات لم تثمر أشكالاً جديدة من إدارة الخوف العام، بل جرى خصخصة طريقة التعامل مع الخوف، وتركت للمبادرات والجهود المحلية، وانتقلت في جزء كبير منها إلى عناية الأفراد وبراعتهم ودهائهم، وإلى الأسواق التي تكره بشدة وتقاوم كافة أشكال التدخل الجماعي (السياسي) ناهيك عن السيطرة الجماعية (السياسية) عبر مؤسسات الرفاه الاجتماعي التي تضمن التكافل المهني باعتبار جميع أفراد الكتلة العاملة نموذج المصنع الفردوي كان التكافل يعيد صياغة القدرة على العمل ويحولها إلى رأس المال وكان هذا النموذج السائد بعد الحرب العالمية الثانية . لكنه في قفزة جديدة نحو الانفكاك عن سلطة التفكير الجمعي والنزعة الفردية أعلنت أوربا عن توسيع دائرة البحث عن الأمن الشخصي من خلال الحقوق السياسية، إن حقيقة أن هذا التنامي للمطالبة بالأمن الشخصي ليس من نصيب كل الطبقات كان معلوما بالنسبة للمتحمسين له إذ اعتبره باومان من نصيب أصحاب النفوذ (ص81) فالديمقراطية بعد تأسيس دولة الرفاه هي ديمقراطية مقتصرة على أصحاب الثروة والتعليم تتسم بأنها انتقائية ومقيدة للغاية (ص82) لكن هذه الانتقائية السياسية تجعل من المهمة السياسية مهمة نخبوية وهي تضاد مباشر لشعار حرية الإختيار التي تنادي المجتمعات الليبرالية بقوة! يرى باومان أن التوجه نحو منح الحقوق السياسية للطبقات الفقيرة لابد أن يسبقه توفير للحقوق الاجتماعية ـ تبدو هنا أطروحة باومان غير منطقيةـالتي التي من دونها تبقى الحقوق السياسية بلا قيمة، على الرغم من أن هذا كله قد تحقق بعد مخاضات عسيرة فإن باومان يرى أنها قد أدت إلى تحول جوهري طبقي فالطبقة المتوسطة التي كان على الأحزاب التفكير بها قبل طرح أفكارهم ومشاريعهم قد عبرت الخط (ص83) نحو طبقة أصحاب المال والنفوذ ن هذا أدى إلى تفرقة جذرية بين المطالبين بالحقوق السياسية لضمان استمرار الدولة الاجتماعية وبين المطالبين بها لخلق الحقوق الشخصية وتوظيف المؤسسات لخدمة مصالحهم الشخصية وأما ما حل محل التضامن الاجتماعي فكان التنافس على الموارد وتنامي جديد للطبقة الخطرة كما وصفها كاستيل (ص87) فهم من ينظر إلأيهم على أنهم طبقات غير مفيدة : فائض غير قابل للدمج إن هذا الفائض كما مثل جيجك يمكن أن يكون أفراد مكونين ليكونوا كذلك في مجتمعات مابعد الحداثة ك: مجموعات من البشر يمكن الاستغناء عنها من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل مسبقا (سلافاوي جيجك 2014)، هذا التمثل الخطير للحداثة السائلة الذي أنشئ فصلا جديدا يختلف عن الفصل العنصري أنه الفصل بين الأفراد والذي تشجعه التوجهات الاقتصادية المعاصرة من تحرير السوق والحريات الفردية التي تلخص التحول نحو العيش معا لكن فرادى كما عبر باومان (ص89).
إذن فالنزعة الفردانية أو Individualism المتصاعدة في أوربا أودت بمجتمع المدينة إلى إنعكاس تاريخي فبعد أن أصبحت المدينة مكانا آمنا في مقابل لا أمن المناطق البرية ، مصادر الخطر انتقلت إلى المدن المعاصرة عبر رسم الحدود المحصنة ضد الغرباء والملاجئ الآمنة في أشكال عصرية كالبيوت المراقبة في المناطق الحضرية التي أصبحت تعبر عن الإنفصال والإقصاء بين الأغنياء وباقي السكان المهمشين، تحول "جيتواتهم الطوعية" على نحو متزايد إلى قلاع ومعاقل نائية خارج المكان(ص90).
أي مهمة لليوتوبيا في زمن اللايقين؟!
في فصل أخير يتساءل باومان عن أي فائدة لليوتوبيا في زمن اللايقين وتداعي الأفكار الكبرى : إن اليوتوبيا هي الإسم الذي أطلقه سير توماس مور ق:16م على تلك الأحلام الإنسانية بعالم خال من التهديدات المفاجئة (ص110) التي دفعت البشرية إلى الاعتقاد بأن التقدم هو مصير الإنسانية أي أن التقدم هو تحقيق لليوتوبيا كما عبر أوسكار وايلد يقول باومان أن كل اليويتوبيا ولدت مع عصر الحداثة نظرا للتقدم الملحوظ للحياة البشرية في العصور الحديثة ـ أننا كلنا صيادون في هذا الزمن أو يفرض علينا أن نكون كذلك (ص115) هي الحالة التي عبر بها باومان على الحياة المعاصرة السائلة التي بدأت تفقد إيمانها في اليوتوبيا، عكس إيمان حراس الصيد والبستاني بأن تقدم البشرية مرهون بمطاردة اليوتوبيا إن أهل الصيد ـ الصيادون ـ مهمتهم الوحيدة هي فرائس أكثر وحقائب أكبر إنها مهمة توافق مع نمط الحياة السائلة الاستهلاكي والنزعة الفردية وانعدام الضمير البيئي بالنسبة لشركاء الإنسان على الكوكب، إن التأملات اليوتوبية حسب باومان قد تضائلت لتترك الإنسانية نفسها فريسة لقوى العولمة الكبرى والتي تتلائم مع نمط حياة سريع ومفكك يظهر فيه الإنسان قدرة هائلة على الخوف من مواجهة التقكير في المستقبل سوى التفكير بمقاومة اللا أمن أو الهروب منه عبر الحركة الدائبة والاستهلاك المستمر ، تغيير الوظائف، إدمانات لكل شي .. يرى باومان أن هذا الأمر الخطير الدافع لكل هذا هو محاربة التفكير فاللا يقين الذي يسم الحياة السائلة ـ يشمل اللا يقين المعنى الاجتماعي والوجودي ـ إنه حلم أهل الصيد كما يرى باومان، بل و يوتوبيا معاصرة لا تختلف عن يوتوبيات الأسلاف التي تهربت من التفكير في واقع تعيس بالتفكير في واقع لاموجود ـ يوتوبيا ـ فهل نحن فعلا في زمن "موت اليوتوبيا"؟ يتسائل بومان الذي يجيب سريعا بأن هذا الظن يبدو بعيدا ـ رغم قلة تداول هذا المفهوم أو الفلسفة في حياتنا الحديثةـ نعم إنها نهاية اليوتوبيا الحديثة الباكرة التي كانت تتصور نهاية للتاريخ ونقطة يتعطل في السعي الإنساني لكنها ـ أي اليوتوبيا المعاصرةـ على العكس هي لانهائية فهي "حلم كادح لا ينتهي أبدا" (ص121) إن اليوتوبيا هي مسعى دائم يضفي المعنى على كرة "التقدم" إذ تعد وعداّ دائما بلا نهائية التاريخ.