ألم نسأل أنفسنا من قبل عن سبب قوة اللغة الإنجليزية في وقتنا الحاضر؟! لماذا أصبحت هي اللغة الأساس في العلوم وفي كل الدول، من أقرب الأمثلة، ما نشهده في رحلتنا لطلب العلم، لما نبحث عن مراجع العلوم نجد أنها باللغة الإنجليزية فهي التي توّفر الجزء الأكبر والحصة المغذية من العلم، فما السبب؟!
إن المجتمعات المُفكرة تعمل للمُستقبل، فبعيداً عن كونِنا من أهل اللُغة أم لا، فلا نحنُ ولا غيرنا يستطيع أن ينفي بلاغة وبراعة لغة الضاد التي تحتوي الكلمة فيها على أكثر من معنى بإختلاف موضعها ونُطقِها! تُنظمُ بها الأشعار وتُكتب المقالات، وقد اشتهر العرب قبل الإسلام ببلاغة قولهم مع نبيل خُلقِهِم، وبالرُغم من أن العالم كان يعيشُ في وضعٍ بائس، إلا أن الله أكرمه بدِينِ الإسلام، واختار عز وجلّ لُغة العرب، ومن العرب كانت الأمة التي لم يكن لها أي سلطة عسكرية أو حضارة أو دولة كالفرس أو الروم، فلماذا جُعلت لغة العرب وعاءً للقرآن دون غيرها؟! أترُك لكم إجابة هذا السؤال وننتقل عزيزي القارئ إلى جانب آخر قد يُساعدنا في فهم ما أرمي إليه وهو كيف تمكنت تلك الأمة من الارتقاء ونشر الدين؟!
يوجد جانب ساهمَ كثيراً في انتشار الإسلام وهو التعظيم، فقد كان الناس يبحثون عن دينٍ يحتضن إنسانيتهم وأخلاقهم العربية النبيلة، وبالرغم من صعوبة البداية إلا أن مُختَلَف المواقف قد أثرت في قلوب الكثير منهم مما أدى لدخولهم في الإسلام! وبدأ الناس يتحدثون عن دين محمد صلى الله عليه وسلم العظيم ولم يستطيعوا إنكار فضل المرسَل ولا الرسالة، ولم يستطع الصادق منهم الطعن في الإسلام أو في شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إنما كان استكبارهم لأجل دين آبائهم الذي ألِفوه مع بعض النوازع الشخصية.. ورغم هذا كان للدين -لغير المؤمنين به -شأنٌ وعظمة في قلوبهم خاصةً بعد أن بدأت فتوحات المسلمين بالتزايد والسماع عن قوة إيمانهم..
قد يستغرب البعض أني دلجت لموضوع التعظيم وانتشار الإسلام، ولكن ما أردته هنا هو تثبيت فهم مبدأ "التعظيم"، "إنّ تغيير عالم الأفكار يغيّر الواقع وبشدة بدون إنهاك شديد جداً في التفاصيل الفنية"، -اختصر قائل هذه العبارة الكثير- ، فعندما نقوم بتعظيم أشياء محددة في المُجتمع فإننا نساهم في تغيير الواقع ليُصبح على شكل ذلك الشيء الذي تمّ تعظيمُه، يقول المؤرخ علي الوردي جملةً تُعجبني جداً: "الإنسان يبحث عن تقدير المجتمع، فإن كان المجتمع يُقدِّر رجال الدين كثُر المتدينون، وإن كان المُجتمع يُقدّر اللص كثر اللصوص"، وينطبق ذلك على الأسس والأفكار والتقاليد واللُغات!
نتحدث قليلاً عن حقبة الاستعمارات، عند استعمار الدُوَل لم يدخل المستعمر عن طريق الدين أو تغيير لغة الدين، بسبب اليقين التام برفض الشعوب لذلك، فلم يتطرق أحدٌ منهم للمساس بالدين وإنما غيّروا الأفكار واللُغات، فاتبعوا مبدأ التعظيم أعلاه، وقاموا باستهداف الثقافة واللغة وبتغيير أو (تجديد) الهوية تدريجياً حتى أصبح المُستَعمَر يفتخر بإرتداء أزياءهم والحديث بلُغاتهم و وصلنا للمرحلة التي ذكرها الرسول صلى الله عليهم "أنهم حتى لو دخلوا جُحر ضبٍ لدخلتموه"، و قد كان للإستعمار الدور الأكبر في انتشار اللُغة، أعترف هنا بحنكة الإنجليز الذين استطاعوا صناعة نهضتهم بجهودهم الفكرية والبدنية، مجتمعٌ لا يُضيع وقته في سفاسف الأمور، يقرأ على أرصفة الطرق، وفي انتظار شارات المرور الحمراء تجد سائقي السيارات وقد أخرج كل ذا همّةٍ كتابه ليقرأ، وعلى صعيد آخر استثمروا الجهود لتطوير العلوم بلغتهم.
تيقن المجتمع الغربي من أثر وأهمية تعظيم الأشياء في النفوس، كما عَلِمَ أهمية العلوم وقوتها القيادية، فقد اكتسبوا علمهم منذ زمن بقراءة علوم العرَب من المسلمين وغيرهم في الرياضيات والبصريات والطب وبقية العلوم، ثمّ قاموا بتطوير تلك العلوم بلُغاتهم بينما انشغلنا نحنُ بتقديسها واتخاذها لوحات وشهادات فخرٍ فيما بيننا، فأصبحت مع التقدُم المستمر علوماً قديمة بينما أصبحت العلوم الحديثة تُدرَّس باللغات الأُخرى.
وفي عصر العولمة الحالي أصبح عُلُو اللُغات واندثارها مرتبطاً بالعلوم والمراجع، وإنسان اليوم يبحث عن التطور والإرتقاء ليقوم بإثراء فِكرِه والإجابة عن أسئلته الفكرية والعلمية والفلسفية التي تكونت من النهضة العلمية الحديثة، ومن الطبيعي أن يتجه الجميع لتعلُم اللُغات الأكثر ثروة من الجانب العلمي، وقد أصبحت في يومنا اللغة الحديثة هي الإنجليزية، فأصبحنا نتعلمها ونُعلمُها في مدارسنا وجامعاتنا العربية ولتأمين المستقبل العلمي للأبناء أصبحنا نبحث عن طُرق تيسير العلوم لهم مستقبلاً وأدخلناهم منذ البداية إلى المدارس الإنجليزية التي تضمن مستقبلهم العلمي والعملي، و لك أن تتخيل عزيزي القارئ حال مجتمعاتنا بعد مائة عام يتحدثون الإنجليزية فيما بينهم، ولك أيضاً أن تتخيل ما ستؤول له اللغة العربية من اندثار ونسأل الله السلامة!
في الختام، إن مجتمعنا العربي ثريٌ بالعديد من الشخصيات المميزة عالية الهمم، وشبابُ اليوم شَهد ثورة علمية وفكرية كبيرة، ونجد محيطنا الشبابي ساعياً للعلم والثقافة، مُحباً للقراءة، الشيء الذي يجعلني دائماً استبشرُ بشبابٍ واعد ذا فِكرٍ مميز ورؤى متفردة، و لكن للأسف معظمهم يلجأ للهجرة لأن مجتمعاتنا لا تُوفر العلوم والشهادات بقدرِ تلك الدول، ومن ثم يضع أصحاب العلوم منهم كُتباً باللغات الأجنبية ليتم تطويرها والاستفادة منها باللغة المُوحَده للعلوم! الشيء الذي ينعكس سلباً على لغة الضاد، ولو أردنا إحيائها مجدداً علينا بتجديد علومنا وكتابة مراجعنا بلُغتنا والإعتزاز بها ليتم تعظيمُها في نفوسنا أولاً قبل الجميع!
إن كان من تقصير فهو يبدأ منا نحن، لعدم اعترافنا بأهميتهااً، كأقرب مثال وجدت في نفسي تقصيراً كبيراً تجاه لغتي التي لم أكُن أُدرك مدى عظمتها، فبدأت بتغيير الأشياء الصغيرة كلغة هاتفي وقائمة الأسماء عليه مروراً بإسمي على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى ترجمة بعض المقالات والأفكار للعربية، بالرغم من صِغَر هذه الأفعال إلا أن التغيير يبدأ منها، ولا ننسى أن الجبال من الحصى!
نحن الجيل القادم علينا استرجاع مجد لغتنا العربية، لنصنع جيلاً عربياً واعياً يفهمُ أهمية لغته وعظمتها، وصرحُنا إن أردناه عربياً فنحنُ من بنيه، لنرتقي بأُمتنا ومبادئنا الأساسية حتى لا تندثر لغتنا التي شَهِدَ الله بها حين اختارها لغةً للدين. وأيُ لغةٍ أعظمَ وأبلَغَ من لُغةِ القرآن الكريم! فالقراءة القراءة يا أُمّـة إقرأ!