تُعدّ صياغة الرأي العام في المجتمعات وتشكيله من الأدوار الرئيسية التي تضطلع بها وسائل الإعلام، ويتضاعف ذلك مع التطورات النوعية المتزايدة التي نشهدها بشكل متسارع في مجالاتِ تقنية الإتصالات، التي منحت وسائل الإعلام إمكانات وقدرات هائلة في التأثير في الآخرين وتغيير المفاهيم، وهو ما جعل منها عاملاً رئيساً من العوامل المؤثرة في صناعة الرأي العام إن لم يكن أهمها.
لكن إضافة إلى مسألة تشكيل الرأي العام برز دور مهم للإعلام الإلكتروني بتشكيل الرأي العام لقطاعات بشرية واسعة ومتنوعة أكبر كثيراً من القطاع البشري المحلي الذي كانت تخاطبه وسائل الإعلام التقليدية؛ فوصل تأثير الإعلام الإلكتروني من أقصى الأرض إلى طرفها الآخر، ومن ثم استطاعت الدول والمؤسسات التي تمتلك تكنولوجيا عالية، وتفوقاً كبيراً في امتلاك أدوات الإعلام الإلكتروني، تصدير وجهة نظرها وفرضها، والتغلغل بعمق داخل شرائح بشرية واسعة هنا وهناك.
لكن في نفس الوقت فإنه لسهولة التعامل مع الإعلام الإلكتروني، وأيضاً لسهولة تعلمه، لم يعد امتلاكه حكراً فقط على الدول والمؤسسات الكبيرة، بل أصبح التعامل معه وتطويره بيد الأفراد والمؤسسات والتنظيمات السياسية المختلفة، ومن هنا أعطى الإعلام الإلكتروني للأفراد والتنظيمات أداة لم تكن تمتلكها سوى الدولة، وهو الإعلام الموجه الذي كان حِكراً على نظم سياسية ظلَّت تغسل عقول شعوبها مدة طويلة، فصار ينازعها، إن لم يكن يسبقها، الأفراد والمؤسسات بشكل كبير للغاية في الترويج لسرديّات مختلفة تناقض سرديَّة النظام/ الدولة التي تقدمها لشعبها.
ومن ثَمَّ فقد تطور الأمر كثيراً ليصبح الإعلام الإلكتروني مساحة كبيرة، أولاً لنقل المعلومات والأخبار جنباً إلى جنب مع وسائل الإعلام التقليدية، حتى إنه بات مؤخراً متقدماً عليها بشكل كبير في نطاقات متعددة؛ وثانياً، تطور جزء من الإعلام الإلكتروني ليصبح أداة لنقل بيانات خاصة بالمجال الاقتصادي مثل البطاقات الإلكترونية، والإيداع في البنوك والسحب، وتعاملات البورصة، ونقل الوادئع لبنوك عبر البحار وغيرها؛ وثالثاً، أصبح الإعلام الإلكتروني ساحة مهمة للتجسس الصناعي، وسرقة التكنولوجيا، والترويج لمفاهيم وعقائد وإيديولوجيات مختلفة، ودعم قضايا بعينها دوناً عن قضايا أخرى، وبذلك صار (الإعلام الإلكتروني) بمنزلة الساحة والوسيط الجديد الذي تدور عليه ومن خلاله صراعات متعددة، صراعات دول مع دول، وأفراد مع دول، وجماعات مع جماعات أخرى أو جماعات ضد دول، وأصبح (الإعلام الإلكتروني) ساحة لاندلاع ثورات ودعمها، أو ربما ساحة لقمع ثورات وتفكيكها، ساحة لنشر مآسي أقليات دينية أو عرقية ومذابحها في نزاعات ما، أو تغطية مذابح أو صراعات في نزاعات أخرى.
في هذه الورقة سنناقش مسألة ارتباط الإعلام الإلكتروني بالصراعات الدولية وعلاقته بها، وذلك بمناقشة عدة أسئلة وفرضيات مهمة عن دور الإعلام الإلكتروني في الصراعات الدولية، واستخدام الحرب الإلكترونية من قبل دول ومؤسسات مختلفة في شن حروب سياسية واقتصادية، وتحول الإعلام الإلكتروني لقوة ناعمة مهيمنة، وتوسع استخدام الإعلام الإلكتروني غير مقتصر على الدول والمؤسسات الكبرى، ومدى مساهمة ذلك في توسع أكبر للأفكار ولا مركزية المواجهة.