إن الغزو الفكري أو الغزو الثقافي كمصطلح لم يسمى بهذا الاسم إلا في القرن الحالي، أما الحديث عنه كمفهوم ومضمون فهو قديم قدم الأمم والشعوب والثقافات، وهو حقيقة واقعية وسنة كونية أملتها نواميس التدافع بين الأديان والحضارات، ومن ذلك قوله تعالى «لَوْلَا دَفْعُ الله الناسَ بَعْضَهُمْ ببَعْض لَفَسَدَت الأَرْضُ» [الحج: 40]. ومعناه مجموعة من الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على الأمة الأخرى، أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر أنواع الغزو لأنه يسلك المسالك الخفية، فلا تستيقظ الأمة المغزوةُ من سباتها، ولا تفكر في صده إلا وقد أضحت فريسة له، فهو داء عضال يفتك بالأمم ويصرفها عن هويتها وعن التمسك بدينها عقيدة وقيما وسلوكا.
وإن الدافع إلى هذا الطرح من الغزو هو تأكدُ الغازي أن لا سبيلَ إلى قوة العدة والعتاد أمام الإسلام وخاصة أن تعاليم الإسلام تفرض المقاومة وبذل الغالي والنفيس من أجل حماية الدين والعرض والأرض، لذلك أضحى من المستحيلات الثابتة السيطرة عليهم، فكان الأجدر بالنسبة لهم إيجاد منفذ آخر ألا هو التركيز على مفاهيم الهوية الإسلامية عامة وإخلائها من مضمونها وتجريدها عن خصائصها وتحويلها عن منطلقاتها وأهدافها، والأدهى والأمر ظهور من يقول بإعادة قراءة التراث وتجديد الخطاب الدين وعرضه على الواقع دون أدنى ضابط أو قيد أو شرط، فتحول الغزو من العسكري الذي يستهدف الأجساد إلى الغزو الفكري الذي يستهدف العقول، ومن مظاهر ذلك عامة دون الخوض في كل مجال على حدة:
- زرع مركب النقص عند المسلمين، وأن سبب التخلف هو التمسك بثوابت هذا الدين.
- التركيز على المفاهيم الإسلامية وإفراغها من مضامينها ومحتوياتها.
- تشكيك المسلم في موروثه الإسلامي وذاكرته التاريخية واعتبارها مصدر الرجعية.
- جعل تعاليم الإسلام ومعالمه تقاليد لا غير، مما يهون اقتلاعها من جذورها.
- التركيز على إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في بعض عصور الإسلام نتيجة سوء الفهم لدين وتشدد البعض في تنزيل تعاليمه.
- إظهار الحضارة الغربية بمظهر الرقي والتقدم من أجل استقطاب المسلم «المثقف» أو «العصري».
- تصدير أنماط العيش بغية التقليد وتغيير النظرة للحياة.
- تمجيد الحضارات الأخرى واعتبارها هي المقياس الوحيد.
- تكثيف عمليات الاستشراق والاهتمام بها.
- إحياء النزاعات الجاهلية تمكينا للفرقة والشتات.
إن انتشار مظاهر الغزو الفكري وسيادتها بشكل كبير أقرب في نفوس الناس بحجية أمر الواقع وثقله، فأصبحت في حسهم جديرة بالاتباع والاقتفاء، لا لجدارتها النابعة من ذاتيها، ولا لأنها صحيحة، ولكن فقط لأن وجودها هو الغالب والبديل هو المغلوب.
أما إذا خضنا في الحديث عن النتائج الحقيقة للغزو الفكري فقد أضحت عميقة بالغة، وخلفت أجيالا هجينة جديدة لا من هؤلاء ولا من هؤلاء تحسب نفسها قد سلكت على طريق الرقي والتقدم والحضارة وما هي في الحقيقة إلا نموذجا تابعا يقبع تحت المظاهر الكاذبة، والادعاءات الفارغة، ومن ثم فقد نتج:
- سيادة الأخلاق والثقافات والعادات للأمة الغازية بين أفراد الأمة المغزوة.
- مداهمة العقيدة الإسلامية قصد اقتلاعها من القلوب، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام فكرا وسلوكا وقيما.
- إيلاء أهمية للقشور والشكليات والفروع للتعلق بها أكثر فأكثر، وإغفال المضامين والمحتويات.
- ضم الأجيال القادمة تحت مسمى الاستشراق بغيت فهم مداخل التراث ومخارجه -بالنسبة لهم-.
- تغيير الفكر وغسل الدماغ وطمس الهوية تحت مسمى تلاقح بين الحضارات دون أدنى ضوابط أو قيود أو شروط.
- تهميش جهود علماء المسلمين وإشعال فتيل الفتنة بينهم، وتشجيع المستشرقين وتمكين كتبهم بين يدي صغار الطلب ومبتدئي الباحثين حتى يحذوا حذوهم.
وغير ذا مما نتج بعضه جلي ومعظمه خفي، وكلها تصب في بحر واحد ألا وهو تحطيم المبادئ الإسلامية لعقيدة المسلم وفكره وحضارته وأنماطه المعيشية، ثم ترويضه كيفما يحلو حتى إذا أراده الغازي حمى تنهك كانت طاعونا يهلك.
ثم إن الحديث عن هذه الحركة كاملة البناء بإيجاز ليس شيئا عفويا بريئا، إنما هي مخططات ومجمعات عملية متخصصة، تهيئ الظروف وتعد البرامج، وتدرب الأطر، وتبتكر الأساليب أمام دعاوى متعددة كتلاقح الحضارات وتبادل المنافع بين الأمم والشعوب، وتطوير الإسلام وإعادة تفسيره أو قراءته بحيث يصبح مثقفا مع الحضارة الغازية.
و الحقيقة أننا لا ننكر تلاقح الحضارات وتبادل المنافع والخبرات، بل ننهل منها ما ينفع أمتنا يثبت كياننا ويبرز خصائصنا ويفرض ذاتيتنا، أما أن نغترف كل ما يساق إلينا ضر أو نفع، وافق أم خالف، حتى ينتهي بنا الأمر إلى فقدان هويتنا وتعَكر صَفوَ ثوابتنا فما هذا من التلاقح الحضارات والتعارف الشعوب في شيء. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «لَتَتَبعُن سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شبْرا بشبْر، وَذرَاعا بذراَع، حَتى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَب لَسَلَكْتُمُوهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله إلىَهُودَ وَالنصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟».
أما محاولة تطوير الإسلام وإعادة قراءته بدعوَى أن الحاجة أصبحت ملحة وخصوصا في خضم هذه التحولات والتطورات في مختلف مجالات الحياة، فيجاب عنها بأنه مهما تعقدت أشكال الحياة وتشعبت مذاهبها، فإن الشريعة الإسلامية بجميع أصولها وفروعها كفيلة بإيجاد الحلول الفورية الناجعة لكل المعضلات التي تواجه المسلمين في كل عصر ومصر، وذلك بما تميزت به خصوصياتها ونصوصها وقواعدها ومقاصدها من الإحاطة والشمولية والمرونة والقدرة على الاستيعاب مختلف القضايا المعاصرة، والمستجدة في واقع الحياة، وذلك عن طريق التدبر، والاجتهاد، والاستنباط، مع فقه الأحكام، وفقه الواقع، وفقه التنزيل بينهما.
وختاما فلا شك أن الأمر يحتاج لوقفة تدبر وتأمل لإدراك كل المخططات والجهود التي أريدت بنا، من أجل فهمها واستيعابها بغية اتخاذ الموقف المناسب والرأي الصائب حفاظا على الهوية الإسلامية والقيم السامية.