انتشرت موضة الفكر والمفكرين بشكل لافت في السنين الأخيرة، وأصبح لقب مفكر يجتذب إليه الكثير من المعجبين والمحبين، حتى دخل في الفكر ما ليس منه، ودخلوه من ليسوا في قبيل ولا دبير، والفكر النافع هو بالأساس إعمال للعقل سعيا للوصول إلى الحقيقة القادرة على تغيير الواقع نحو الأفضل.
فهو كما نرى فيه الكثير من الشروط، فالفكر الذي لا ينمي قدرات العقل ولا يطورها لن يكون نافعا، والفكر الذي لا يسعى للحقيقة أو يتجاهلها أو يقفز عنها لن يكون نافعا، والفكر الذي لا يغير من الواقع شيئا على المدى القريب أو البعيد أيضا لن يكون نافعا، وكلما نقص شرط من هذه الشروط نقص نفع الفكر وقد ينعدم، هذا على المستوى الأفقي من النفع.
وعلى الرغم من أنه قد تجتمع كل تلك الشروط، ومع ذلك تتفاوت درجات النفع على المستوى العمودي عمقا وسطحيةً، فقد يكون هناك فكر يعتمد العقل ويسعى لحقيقة ما تُغيّر الواقع ولكن بشكل مؤقت أو جزئي، فالفكر الأكثر نفعا هو الذي تدوم مدة نفعه وتمتد صلاحيته في أماكن وأزمنة شتى.
فالفكر إذن ليس هواية، إنما هو معاناة حقيقية يعيشها المفكر ولا توكل إليه، وقضايا يمتحن معها في حياته ولا يحث عليها حثا، وتجذبه الحقيقة إليها جذبا لا أن يتلاعب بها، وإلا فلن يكون الفكر أكثر من لغو ركيك وانتصارات لفظية!
الفكر أيضا لا ينوب عن شيء آخر، فيبقى للذوق مكانته وللعاطفة مكانتها وللخطابة مكانتها، فقد تحرك جيوشا من الناس للحسم في قضية ما بالخطاب العاطفي، ولا تستطيع أن تحرك بالفكر جزءً من معشاره وهكذا.
إن لكل مجالات الحياة أهلون قادرون على إمعان الفكر فيها وتطوير واقعها نحو الأفضل، فالمفكر التربوي ليس أهلا للبت في قضايا فكرية سياسية إن لم يمتلك أدواتها، وكذلك المفكر الاقتصادي ليس هو المفكر الإسلامي، وهلم جرا.
من المشكلات الكبيرة في واقع الفكر اليوم أن من العادات القديمة لبعض الفقهاء حشر أنوفهم في كل فن، فتجدهم يفتون بجهل في قضايا لا هم منها في قبيل ولا دبير، وقد انتقلت تلك العادة السيئة إلى كثير من المنتسبين للفكر، فمنحوا أنفسهم حق البت في دقيق الأمور وجليلها مستندين في ذلك على اللقب أيضا.
وهذه مع الأسف من أمراض مجتمعاتنا التي لا تزال بعيدة عن احترام التخصص والحث على الالتزام والتعمق فيه.