بعد سقوط الدولة العثمانية كآخر خلافة إسلامية، انطفأ وهج وطموح المشروع الإسلامي الذي دام لأكثر من أربعة عشر قرنا، برغبته في تسيد العالم وحكمه بدولة واحدة شاملة تحقق الغاية التي جاء بها الإسلام وأرادها الله عز وجل، فكانت الفرصة الأعظم للغرب للسيطرة على ما تبقى من دول إسلامية، وضمان عدم قيام دولة محمدية من جديد، وهكذا تفرقت الدول الاسلامية وجعلت من "اتفاقيات ساكس بيكو" حدود لها، وتشتتت كلمتها، وتعطل مشروعها وأصبح الغرب مرجعا وقدوة لها، فانطلقت لتحقيق ديمقراطية أوروبا، فإذ بها قد رهنت نفسها وسيادتها للغرب فأصبح العدو صديقا وأصبح الصراع الإسلامي مع الكافر "سلما وسلاما" في جو من النفاق تكسوه طبقة من العمالة خَلَّفَت عالما إسلاميا متخلفا ومستعمرا ينتظر انتفاضته وخوض صراعه المقدر من جديد.
وها نحن اليوم نشهد ذلك مرة أخرى، فبعد سقوط مصطلح الصليبية وتجديده بالعلمانية، لم يستطع الغرب اخفاء قناعه المتطرف كثيرا، فأعاد هيكلة أفكاره وبرز مشروعه من جديد..
منذ أيام، أسفرت الانتخابات التشريعية في إسبانيا عن مفاجأة كانت مرتقبة، تمثلت في صعود حزب اليمين المتطرف "vox" بقفزة كبيرة من 4 مقاعد في البرلمان إلى أكثر من 52 مقعد في ظرف أشهر قليلة فقط ليصبح ثالث أكبر حزب في البلاد، هذه القفزة، جاءت بعد تلك التي شهدتها فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا وحتى هولندا والنمسا،…
في مد يميني متطرف تشهده أوروبا في الأعوام القليلة السابقة، وقد جاء المد نتاجا للسياسات الاجتماعية والأفكار المتطرفة التي أصبحت الحكومات الغربية "العلمانية الكيوت" تتبناها وتروج لها، ناهيك عن عقلية حكومات الوسط التي باتت تغذي اليمين لتصنع منه منافسا شرسا في الانتخابات، وتنفير المجتمع الأوروبي من الخطابات الشعبوية للأحزاب الراديكالية ودفعهم نحو الخطاب اليميني المباشر والمعزز لفكرة "الشعب الآري" في بلدانهم.
والآن بتنا نرى تزعم بعض الشخصيات "في صورة ماري لوبان، بوريس جونسون، نوبرت هوفر، اباسكال" للساحة السياسية في أوروبا، هذه الشخصيات التي عرفت بتطرفها ومعاداتها للإسلام والمسلمين، إضافة للمهاجرين، ناهيك عن مهاجمتها للدول الشرقية عامة والإسلامية خاصة، في حملة ضخمة لترسيخ الإسلاموفوبيا والهجروفوبيا في أوروبا.
وهذا ما لاحظناه كذلك في بلاد العم سام وأرض الحريات التي بات يرأسها المثير للجدل "ترامب" وسقطاته الكثيرة التي أودت به إلى مطالب الحزب الديمقراطي لعزله هذه الأيام، ترامب الذي ضمته ماري لوبان زعيمة الحزب اليميني المتطرف في فرنسا إلى ما سمته "حركة الصحوة" كانت قد باركت كثيرا حكمه ورئاسته بعد طرحه لأفكاره المعادية للمهاجرين والمسلمين..
و قالت لوبان في كلمة ألقتها في مؤتمر لـ ”تحالف أوروبا من أجل الشعوب والتحرر“ قبل سنوات ”إن 2016م كانت السنة التي شهدت صحوة العالم الأنجلو ساكسوني (تقصد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا والشعب البريطاني الذي صوّت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي)، و2017م سيكون العام الذي سيشهد صحوة الشعوب الأوروبية“. وأضافت أن وصول اليمين المتطرف لسدة الحكم في أوروبا يعني تغير وجهتها في تعاملها مع مناوئيها، إضافة لإنهاء طغيان الاتحاد الأوروبي الذي ضاعت هيبته بعقليته الجوارية مع دول لا يحتاج صداقتها، حسب زعمها.
ومن جهة أخرى قال زعيم الحزب المتطرف في هولندا: "أوروبا تأسلمت كثيرا في الآونة الأخيرة ويجب إيقاف ذلك "مشيرا لاستقبال المهاجرين"، والآن أوروبا تقف على بداية ثورة جديدة، مشيدًا هو الآخر بفوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، كما يضيف "هناك أمريكا جديدة اعتبارًا من يوم أمس "يوم تنصيب ترامب" وغدًا سيكون هناك أوروبا جديدة كذلك.“
كل هذا يتزامن مع إسقاط اللثام عن الفكرة المنمقة للعلمانية السمحاء المتعايشة مع كافة الإيديولوجيات والمرجعيات وبطبيعة الحال "اختلاف الأديان"، والدفع بالعقلية العنصرية والمشروع العلماني المعادي للإسلام والشعوب الشرقية في أوروبا، لنصبح أمام معادلة الشرق الإسلامي والغرب المتطرف في صورته الكاملة دون نفاق.
ولربما يكون صعود اليمين المتطرف نقمة على الجاليات العربية والإسلامية هناك، إلا أنه سيكون نعمة ومكسبا للأمة الإسلامية لتوضيح معالم الصراع بين الغرب المعادي والشرق الطامح لتحقيق سيادته، صعود اليمين المتطرف واستلامه السلطة في أوروبا سيقودنا لأول مرة إلى إلغاء فكرة الغرب الصديق والعمل على انتفاضة جديدة، بعيدا عن العمالة وثنائية التعاون والجوار، ونزع صفة "الهوان والذل" التي نتعايش بها معهم للآن.
هذا دون إغفال فكرة المشروع اليميني المتطرف المبني على القومية والذي أصبح من الآن يهدد وحدة أوروبا ومشروعها الذي تسعى إليه "الولايات المتحدة الأوروبية".
وهو ما يجب استغلاله مستقبلا من طرف المسلمين في صورة التجربة اليهودية "فكرة معاداة السامية"، لكن بصورة أكبر وأعمق ستنجر عنها صراعات بين الغرب نفسه الذي بدأت القومية تنخر مجتمعاته، مقابل تعزيز روابط الوحدة والتعاون بين الدول الإسلامية "التي تشن حربا ضد حكوماتها العميلة لإسقاطها" واستغلال الوجود الإسلامي والعربي في الدول الغربية والذي "دون تضخيم" يمكنه إسقاط وتعيين حكومات كما يريدها العالم الشرقي.
إضافة إلى أن الموجة المغرضة التي يعِد بشنها اليمين المتطرف ما أن يتمسك بطرف من السلطة سيكشف النقاب عن مفهوم الصليبية بشكلها المعادي ويقود العالم الإسلامي إلى رد فعل حازم يفكك أي أواصر للتقارب أو الجوار مع الغرب ويجبره على الدخول من جديد في صراع يتجنبه من عقود، وآن أوان خوضه من جديد.