ليس عليك أن تصوب سلاحًا ناريًّا نحو صدر أخيك حتى تسمّى قاتلًا، وليس عليك طعنَه بسكين أو تفجيره بمفخّخة حتى تكون كذلك، يكفي أن تؤيد قاتله بكلمة، أو تبرّر القتل بحلقةٍ من مسلسل، أو تقلب الحقيقة فتجعل الضحيّة مجرمًا والمجرم ضحيّة بمشهد سينمائيّ، أو تمجّد القاتل المجرم بقصيدة مثلًا! يكفي أن تشد على يد القاتل وتصفق له، ولا تحتاج لأكثر من أن تهزّ رأسك وتبتسم موافقًا على إجرامه،
وسكوتُك أيضًا إذا ما سالت دماء الأبرياء نهرًا تحت قدميكَ سيضعك في رتبة القاتل نفسه!
إنَّ القلم لا يقلّ رتبةً عن سبطانة المدفع، والمشهد السينمائي ليسَ أقلّ تأثيرًا من قصف طائرات الميغ، والقصيدة مثل حبل المشنقة؛ حين تكون كلّها في صفّ القاتل المجرم.
الفنّ بين الرّساليّة والإجرام
لطالما كان الفن تعبيرًا عن رهافة الإنسان، ولطالما حاول أن يرتقى بالبشرية فكرًا ويثريها جمالًا، وكان على اختلاف ألوانه فسحةً سماوية وملاذًا للأرواح المتعبة، يمحو عنها مقدارًا من كدر الحياة ويقدّم لها تعويضًا بسيطًا عمّا تكابده من آلام الوجود.
وكان جوهر الفن على مر العصور: رسالتُه السامية المحقة! سواء كانت أدبًا أو رسمًا أو مسرحًا، ولكن ماذا لو تحوّل الفنانون إلى قتلة؟ ماذا لو غاصت أيديهم في دماء الأبرياء فيما يزدادون إصرارا ومفاخرة بذلك يوما بعد يوم؟ هل نستطيع تقبل إنتاجهم الفني والالتذاذ به؟ هل نستطيع أن نقسّم وعينا إلى نصفين؛ الأول يطرب لما يقدمه هؤلاء القتلة فيما يلعنهم النصف الآخر لأنهم مجرمون؟ هل نستطيع أن ننحّي جانبًا صنائعهم السوداء ومواقفهم المخزية التي يندى لهم جبين الإنسانية وننهمك بمشاهدة وتحليل أعمالهم مستقبلا؟
الفن رسالة هدفها الإنسان، وهؤلاء يقتلون الإنسان لأنه خرج للمطالبة بأبسط حقوقه، فلمن إذن يوجهون رسالتهم، أليس نتاجهم المستقبلي موجه حصرًا للقتلة أمثالهم، أعني للوحوش أمثالهم! أليس هذا الفن أشوها لأنه وليد ضمير مريض وعقل مجرم!
افصلوا بين انتاج الفنّان وموقفه الأخلاقي
قد يقول البعض، علينا أن نفصل بين مواقفهم الأخلاقية وبين ما يقدمونه من فنون، ظلم أن ننكر كل ما يجتهدون في إتمامه بسبب خلاف في الرأي! إنّ ما بيننا ليس خلافًا في الرأي ومناكفات حول أفكار عابرة؛ بل خلاف في التصنيف، خلاف في الانتماء وخلاف في المبدأ، خلافٌ في تصنيفهم كوحوش أو بشر.
للفنّان أن يكون مختلا قليلا، أن يعتنق أي دين شاء، أن يبلغ في غرابته وتطرفه أعلى الدرجات وقد يقبل النّاس ويتذوقون ما يقدمه طالما أنّهم يتشاركون معه المبادئ الإنسانية ذاتها، لكن عندما يكون قاتلًا مباشرًا أو بالتسبب أو مشاركًا في القتل بدفاعه عن القاتل وتبريره الجريمة؛ فمن الطّبيعيّ أن يتمّ تصنيفه عدوًّا لا تجمعه مع الشّعب المظلوم ضفّة واحدة أبدًا!
لا تحمّلوهم ما لا يحتملون!
ولعلّ قائلًا يقول: إنَّ الفرضيّة برمتها مغلوطة؛ فأهل الفن لم ولن يكونوا يومًا قادة للمجتمع أو رموزا فيه؛ فلمَ تحمّلونهم ما لا يحتملون، وما لا يجب عليهم أن يتحمّلوه أصلًا؟
لو أننا راجعنا التاريخ قليلا فقط، سنعرفُ كم من قلم كان أمضى من السيف، وكم ريشة تلوين كانت أعتى من مجنزرات الطغاة، كم من كلمة حق هزت عروش السفاحين وأشعلت فتيل ثورات محقة.
والآن، بعد ثورات الربيع العربي وحمى تساقط الأقنعة، يجد الإنسان العربي نفسه في أحد فريقين: مع القاتل أو ضده!
عار على العربي الآن ميوعة موقفه بعد أن أترعت أرضه بدماء الأبرياء، ملعون وجبان من تأرجح بضميره الآثم في منطقة رمادية بين الحق والباطل، وكلاهما بيّن.
إنها الفرصة الأخيرة والوحيدة ربما لينتمي الفنّان والأديبُ والشّاعر لجهة يشرفه الانتماء إليها، هي فرصته الأخيرة ليجد معنى مقبولا لمعاناته ومسوغًا شريفًا لموته المقبل، فكم نحتاج أن يكون الفنّان إنسانًا وعنوانَ حريّة في حياته القصيرة والوحيدة، أمّا أولئك الذين حسموا أمرهم ووضعوا أصابع أدبهم وفنّهم على زناد بندقيّة القاتل الموجهّة لصدر الشّعب المطالب بحريّته وكرامته فسيقول لهم الشعب كلمته، وسيسمعون صرخته بعد أن يفوت وقت النّدم؛ صرخته التي تقول لهم:
"أيها الفنانون القتلة، تأبطوا إنتاجكم الفني المغمّس بدمنا وخذوه معكم إلى الجحيم ومزابل التّاريخ"