قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)) [آل عمران/159].
كان سؤالا سألته عن معنى كل من الفظاظة وغلاظة القلب الذين نزه الله نبيه الكريم عنهما وجعل ذلك سببا لتجمع القلوب حوله، ثم تساءلت عن اختلافهما عن القسوة، إذ كلها أسماء قرآنية وردت في سياقات محددة.
عند تدبر السياقات القرآنية للغلاظة واستخداماتها، وشفاعة ذلك ببضعة تفاسير ومعاجم، نجد أن غلاظة القلب تعني بالمصطلح المعاصر: انعدام الذكاء العاطفي، ونجدها متجهة إلى الآخرين كطريقة تعامل وقد أمر الله تعالى بها نبيه عند التعامل مع الكفار والمنافقين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم/9] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة/ 123].
واغلظ عليهم أي لا تتعاطف أو تتساهل، وليجدوا فيكم غلظة:أي صلابة وعدم تعاطف. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم/6] وُصفتْ الملائكة هنا أي في يوم الحساب بالغلاظة أي لا تعاطف لديهم أو رحمة أو لين.
وميثاق غليظ –كما في سورة النساء-أي لا تساهل فيه أو لين، أما الفظ فهو سيء الخلق قولا وفعلا أو خشن الكلام والمعشر وهي سلوك ظاهري وثمرة لصفة باطنة هي غلاظة القلب، وبمفهومنا المعاصر قد تعني انعدام اللباقة في التعامل، فظا غليظ القلب: متلازمتان أي انعدام لباقة اللسان وتفاعل الجَنان (القلب).
وقد أحسن الرازي حين قال في مفاتيح الغيب:[فَإنْ قِيلَ: ما الفَرْقُ بَيْنَ الفَظِّ وبَيْنَ غَلِيظِ القَلْبِ؟ قُلْنا: الفَظُّ الَّذِي يَكُونُ سَيِّءَ الخُلُقِ، وغَلِيظُ القَلْبِ هو الَّذِي لا يَتَأثَّرُ قَلْبُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ لا يَكُونُ الإنْسانُ سَيِّءَ الخُلُقِ ولا يُؤْذِي أحَدًا ولَكِنَّهُ لا يَرِقُّ لَهم ولا يَرْحَمُهم، فَظَهَرَ الفَرْقُ مِن هَذا الوَجْه]ِ.
ولاحظ أن كل ذلك من آثار رحمة الله في الإنسان التي تثمر اللين فتنفي الفظاظة وغلاظة القلب: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، فلين القلب ورقته هنا أثر من رحمة الله فيك، ثم يتلو ذلك أوامر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ).
اعف عنهم واستغفر لهم: حث على خلائق عاطفية رحيمة، فيها استدرار للعاطفة والرحمة، أما وشاورهم في الأمر فهي خليقة معرفية، أي استنهاض للجانب الفكري في الإنسان وليس العاطفي، وهذا يقودنا إلى مصطلح القسوة.
لم تأتِ القسوة في القرآن كخليقة إنسانية في التعامل بين البشر، بل مع الله تعالى وآياته وقضية الإيمان والمعرفة والعقل فالخضوع والخشوع، وتأمل هذه الآيات:
- (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74).[سورة البقرة]
- (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) [سورة المائدة]
- (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43) [سورة الأنعام]
- (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(22) [سورة الزمر]
- (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) [سورة الحديد]
هل القسوة تناقض عمل العقل؟ بمعنى هل هي سمة لها علاقة بوظيفته الإدراكية وليست العاطفية، أي تمنعه من التقلب ليدرك المتغيرات فيعي ويتأثر فينفعل، ففي آية البقرة: ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة، أي لا تتأثر لتعقل، والعقل هنا إدراك للعلاقات بين الأشياء والأسباب والخصائص ثم الوصول إلى مسببها: الله تعالى، القسوة متجهة نحو الله وآياته وثمرتها عدم الإيمان والعتو عن أوامر الله وهي ثمرة طول الأمد أي ثبات في القلب يعطله عن وظيفته التقلبية ليعقل ويحكم ويؤمن.
أما الغلظة تتوجه إلى معاملة الآخرين من مؤمنين وكفار، والخلاصة أن قسوة القلب في انعدام الذكاء المعرفي الذي يثمر الانفعال فالإيمان وهي صفة إنسانية متجهة نحو الله، وغلظة القلب انعدام الذكاء العاطفي الذي يثمر اللين وهي صفة إنسانية متجهة إلى الناس، وجماعهما يؤدي إلى فقدان الحكمة، والتي هي الملكة الإنسانية الجوهرية التي تمثل ذروة الوظيفة القلبية/ العقلية التقلبية التي تبدأ بالتقليم وتمر بالتفكير والتعقل والنظر والفقه، لتنتهي بالإحكام.
وتأمل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي هناك رابط بين إحكام الآيات وانعدام هذا الإحكام عند القاسية قلوبهم فيفتنون بما يلقي الشيطان، فالقسوة هنا جمود أعمى لا يعي ولا يخشع وثمرتها الضلال والظلم.
ولاحظ كيف أمر الله تعالى نبيه بالعفو عنهم أي فيما يتعلق بحق النبي، واستغفر لهم أي فيما يتعلق بحق الله، فكأن في هذين الأمرين جمع لما ينافي القسوة التي هي بحق الله ولما ينافي الغلظة التي هي بحق النبي أو المؤمنين.
ويطيب لي إن أُحْكِمَ هذه الأفكار بما أورده الدكتور عادل مصطفى في مقدمة كتابه العظيم: المغالطات المنطقية، عن مراحل النمو المعرفي الخمسة عند الإنسان، أربعة منها بيولوجية عامة يستوي فيها كل البشر وهي: المرحلة الحسية الحركية(0-سننتان)، المرحلة ما قبل العمليات أو قبل المنطقية (2-7سنوات)، المرحلة المنطقية العيانية أو المادية(7-المراهقة)، وما بعد ذلك هي المرحلة المنطقية التجريدية.أما المرحلة الخامسة فهي ليست متاحة لكل البشر لأنها ثمرة تعليم وممارسة وتدريب وهي مرحلة التفكير الجدلي أو ما بعد المنطقي أو النقدي، والملفت ما ذكره الدكتور عنها أنها ليست ثمرة ذكاء ذهني فقط بل تحتاج إلى الذكاء الانفعالي أو العاطفي، والتسامح والمواجدة empathy! ولا أرى هذه المرحلة إلا (الحكمة ) بالمصطلح القرآني!
وهي ليست هدفا غائيا ما إن تصله تطمئن! بل هي ملكة حركية مستمرة متجددة وقد تضمر ما لم تتعهدها بالرعاية والتنمية أي التزكية قرآنيا، ولعل هذا يعلل لنا عدم مجيء كلمة العقل في القرآن بل الفعل (يعقلون، تعقلون، عقلوه،..) أي هو سلوك يمارس لا صفة ثابتة، فإن قيل: لقد ورد العقل بالمصدر في القرآن لكن باسم القلب، أقول: إن كلمة القلب في أصلها لا تعني الثبات بل التقلب الدائم!
ويصدق قولي هذا خاتمة عادل مصطفى لمقدمة كتابه فيقول: "ومهما بلغ نضجك في التفكير النقدي ستظل بحاجة إلى تحصيل العلم واكتساب المادة المعرفية التي تُعمِل فيها فكرك النقدي، ولا يغب عن بالك قول [الفيلسوف] رسل: المنطق والرياضيات هما أبجدية كتاب الطبيعة وليستا الكتاب نفسه!"