تَمُر الأيام والسنون.. تَمُر بِنا وتَمُر فينا وتَمُر مِن حولِنا، وكم من فرحة صافحت قلوبنا، وكم من حزنٍ لامس وجدَاننا، وكم من يأسٍ ألَمَّ بنا، وكم من خوفٍ طوق أعناقنا، وسعادةٍ سعينا نحوها، وآمالٍ أنارت طريقنا، وإيمانٍ طمأن أفئدتنا، وأرزاقٍ أثلجت صدورنا، يمر العام تلو العام وتقف حائرًا متأملًا في عمرك وإنجازك، بما ستجيب عندما تُسأل عن عمرك فيما أفنيته وشبابك فيما أبليته؟ هل تمتلك إجابة شافية؟ وكيف ذلك! وأنت سريع اليأس قليل الصبر، يحمل قلبك كل خير ولكن العائد لا يُرضِيك وأعمالك لا تكفيك، كان يمكن أن تقدم الأفضل في هذا العام المنقضِي، ولكنه انقضى كغيره وسيبدأ الجديد كسابقه، فمن لنا بقلبٍ جديد ليس به كسر أو جُرح، ليس به ألمٌ أو حزن، ليس به خوفٌ أو عجز، قلبٌ جديد لعامنا الجديد.
بـدايـة مع الـله
ربٌ غفور ذو كرمٍ وجُود، يَهِبُـنا فرصة دائمة لتجديد العهد به، فمَن عَزِم التوبة سيصل ربه في أي يوم وفي أي ساعة من اليوم، فهو بابٌ مفتوح دائمًا ورحمات تنهمر أبدًا، فلا تبخل على روحك أن تصل خالقها ورازقها ومدبر أمرها، إنّ الصلة بالله هي غذاء الروح، وسعادتها في الأُنس به، وراحتها في التوكل عليه، وأرزاقها بين يديه، فلا تكن ممن ضلَّ الطريق بعد الهُدى؛ واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا تزغ عينيك عن طريق الله بشواغِل الدنيا.
في عامك الجديد.. اسأل الله الطريق واستعن به على عقباته، إن الله يرشد القلوب الصادقة ويؤتي النفوس المتطلعة للأفضل، الباحثة عن الطريق الصحيح، التي تجتهد فتتوكل على خالقها، وتنجحُ فتحمد رازقها، قال تعالى "إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا".
بدايـة مع النفـس
إننا بالبداية مع الله قد قطعنا شوطًا كبيرًا مع نفوسنا، فإنها بالله تحيا وتُزهِـر، وبمعرفته تلين وترِق، نفوسنا هي ميداننا الأول وبها نسير في معترك الحياة، وببداية العام الجديد فإن لنا مع أنفسنا بدايات.
اِنْـسَ الماضـي
كيف لك أن تسير بكل هذه الأحمال الثِقال وتتقدم خطوة؟! تخفف من آلام الماضي وذكرياته وأشجانه، فإنك إن لم تفعل تعثرت به كلما خطوت، ويؤخرك كلما هممت، ويقيدك كلما انطلقت، دع الماضي وراء ظهرك، انفض عن قلبك آلامه وامح من عقلك ذكرياته، فإنه لن يزيدك إلا ثِقلًا وهمًا، فلا تحمله معك إلى عامك الجديد.
لا تأسَ على ما فاتك!
لا تأسَ على الفرص الفائتة والأحلام الضائعة والآمال الهاوية، فإنها الأقدار التي تبطن الخير لك، فاصبر لذلك ولا تبتئس، واعلم أن الأمور ليست كما تبدو، فقد يكون الخير في الشر وقد يكون الشقاء فيما نظنه عين السعادة، فلا تَغُرك الحياة بظاهرها الباسم أو الباكي، وازرع الرضا في قلبك فهو أدوم وأبقى، قال تعالى "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ".
خَطِط قبل أنْ يُخَطَط لك!
إن الأيام تسري رغمًا عنا والوقت يمضي، فإن لم تحدد طريقك وهدفك من البداية؛ سارت بك الأيام وألقت بك الدنيا على شاطئٍ غير شاطئك ومرادٍ غير مرادك، وتجد نفسك خادمًا لأهداف غيرك، هائمًا على وجهك، تائهًا دون خريطة، سائرًا دون مقصد، إن من أسباب كسر قلوبنا وحزنها أنها لم تحقق مرادها وأحلامها، فلا تبخل على نفسك إسعادها بالنجاح، ضع خطتك في بداية العام الجديد، اكتب أهداف عامِك ووسائل تحقيقها، ووزعها على الشهور وابدأ في التنفيذ، اعرف طريقك تلقى مرادك.
إذا عزمتَ فتوكَل..
تَحمِل هموم الحياة فيضيق بها صدرك، ويرتعد لها قلبك بين جنبيك، فلو أنك تتوكل على الله حق توكله، لحملت قلبًا مطمئنًا ونفسًا هادئة، لأفنيت جسدك وأهلكت بدنك في العمل والأخذ بالأسباب ولكن قلبك عامرٌ نابض لا يصيبه ظمأ ولا كدر، لأدهشك الله بعطائه ونعمائه، إن معادلة التوكل أخذُ بالأسباب ودعاءٌ بالنجاح ثم توكلٌ من قلبٍ لا يحمل هم النتائج ولا يصيبه خوف من الأقدار.
سهرت أعين ونامت عيون... في أمور تكون أو لا تكون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفس... فحملانك الهموم جنون
إن ربًا كفاك بالأمس ما كان... سيكفيك في غدٍ ما يكون
إليكَ خلطة سحرية تأخذها معك إلى العام الجديد، وهي أن تغض الطرف عن تصرفات الناس وأفعالهم، وتوجه ناظريك إلى القيم العليا والمبادئ السامية والمشاعر الإنسانية الخالصة.
بـداية مع الآخـرين
علاقات تبغي وصلها، وعلاقات تريد ثـقلها، وعلاقات تعيد التفكير بها، وأخريات تعلمت وتتعلم منها، هذا هو الإنسان اجتماعي بطبعه، يريد الحصول على الحب وشتى المشاعر الطيبة، كما يود أن يُهديها لمن تطيب له نفسه، لكن كم تكثر المشكلات والخلافات بينك وبين من حولك! وتضيق بالعالمين ذرعًا وتكره الاختلاط بهم وتأبى إلا أن تعتزلهم، وتشغل بالك بتصرفاتهم وطرق تفكيرهم وردات فعلهم، وودت لو استبدلهم الله بأقوامٍ يفهمونك ويفهمون طباعك، ويقدرون مزاجك، لا يفارقونك ولا تفرق بينكم الأيام، يسعدون لسعادتك ويسخطون لسخطك، هل تريد نُسخًا طبق الأصل منك؟! إنّ هذا مستحيل.. غير أنه لو حدث فلن يجعلك سعيدًا بل سيجُر عليك شقاءً ومللًا، لأن الجمال في الاختلاف والسعادة في تقبله.
وبَعـد.. إليكَ خلطة سحرية تأخذها معك إلى العام الجديد، وهي أن تغض الطرف عن تصرفات الناس وأفعالهم، وتوجه ناظريك إلى القيم العليا والمبادئ السامية والمشاعر الإنسانية الخالصة، صِل من قطعك وواسي المجروح واستمع للمهموم وانصح الخاطئ؛ فإنك تنصحه لأجل قيمة النصح ومبدأ الأمر بالمعروف، لا لأجل أن فعله السيئ تمَلَّـك عقلك وأثار غضبك؛ فتكره الشخص وتنبذه وتوجه له نصيحة جافة قاسية لا تُدِر عليه فائدة ولا نفع.
ارحم من حولك وقدِّر تقلب أحوالهم وضيق صدورهم وأوقات حزنهم، فإن الدنيا شاقة وأحمالها ثقيلة، فكن يدًا حانية ونفسًا معطاءة، فإنك إن تواسي المحزون تَسعَد، ولو شجعت الخائب تَأمَل، وإن أنرت ما أطفأه الزمن في عيون الناس أضاءت نفسك وأضاء دربك، صِل رحمك من جديد فإن العلاقات المقطوعة ما قطعها إلا أحوال الدنيا ورزايا الدهر، وإنّ الناس ما تمنوا قَطعًا ولا فُرقَة قَط، اتصل بأحبابك وادفع الحب في أنابيب الوَصل التي جفت، افعل ذلك فإن العمر قصير لا يحتمل بغضًا ولا قطيعة، صِل الناس من أجل الوصل والحب؛ فلا تصلهم لأنهم جيدون ولا تقطعهم لأنهم أشقياء ذو نفوس ضيقة ومشاعر راكدة، بل أوصلهم من أجل الوصل فقط، فإن فيه أجر كبير وثواب عظيم في الدنيا والآخرة.