بمجرد أن نلقي نظرة خاطفة على الأمم والحضارات الغابرة أو التي مازالت تحيا بيننا، سوف نجد خلافا حول المرأة؛ فهناك من عدها خيرا وبركة وهناك من عدها شرا ولعنة، ورأي "أرسطو" و"بوذا" و"نيتشه" و"شوبنهاور" معروف في هذا. لكن لم يجرؤ أحد على أن يذم المرأة باعتبارها أما، وفي الحقيقة البشرية من أولها إلى آخرها، أصبغ عليها من المديح والثناء الشيء الكثير حتى يمكننا القول بأنه لم يوجد من تلقى المديح مثل ما نالته المرأة كأم.
ويكفي أنّ حكمة السماء وحكمة الأرض قد زكتها، أفلم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" أليست الجنة تحت أقدام الأمهات! وفي مكان ما في الهامش من كتاب "إميل" أو في تربية للفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" جعل العاق للأب يحتاج تأديبا شديدا أما من العاق للأم فقال: "باطن الأرض أولى به من ظاهرها" وبلغة الفقهاء العاق للأب حكمه التعزير والعاق للأم فعقوبته القتل، هكذا قال الفيلسوف الفرنسي.
وإذا سألنا هل حكمة السماء وحكمة الأرض أعطت هذه المنزلة للأم صدقة وإحسانا أم أنّ الأم قد نالت هذه المنزلة عن جدارة واستحقاق؟ فالحقيقة أنّ الأم قد نالت هذه المنزلة عن جدارة واستحقاق فهي رمز للعطاء والمحبة، إنها تأتي في العناية بالبشرية في المنزلة الثانية بعد الله تعالى، إنّ الله قد أعطى للأم الشيء الكثير من نفسه، لا تقاس عناية الأب للأبناء وخوفه وحرصه عليهم بعناية الأم وخوفها وحرصها هي عليهم، فالفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء وإن كان الأباء على خير عظيم.
لكن للأسف العلمانية الحديثة جعلت من هذه التي انتزعت إعجاب خير البرية وأفضل البشر وحكماء الأرض، سفاحة سفاكة للدماء قاتلة بدم بارد، إنّ العلمانية جعلتها تغتال الطفولة وبطريقة خبيثة وماكرة وبسيطة في نفس الوقت؛ بأن قامت بلعبة كلمات سخيفة للغاية بأن وضعت محل كلمة "قتل" كلمة "إجهاض" بأن استبدلت كلمة إزهاق روح طفل بريء بإسقاط جنين.
إنّ لهؤلاء السادة الحداثيين تعبيرات لطيفة للغاية لكنها تخفي شيئا مرعبا، قسوة من أقسى ما يكون، إنهم يمررون أفظع الجرائم بألطف العبارات والكلمات، عملية قتل مكتملة الأركان يقال عنها إجهاض وإسقاط جنين، ولعمري ما الفرق بين ما تدل عليه كلمة إجهاض الحديثة وكلمة إسقاط الجنين وكلمة وأد الأطفال.
أما أنّ هذا الذي في بطن هذه الأم هو إنسان! فهو كذلك رغم تمويهات الحداثيين فهو يتنفس نفس الهواء الذي تتنفسه الأم، ويأكل نفس الأكل ويخضع لنفس الغرائز التي تخضع لها الأم وينمو كما تنمو الأم والعالم بأسره، يعلم أنّ الذي في بطنها إنسان ذكرا كان أو أنثى وليس تفاحا أو عنبا، والطبيب الذي استهدفه بخنجره وسيفه يعلم أنه كذلك، والأم التي أصدرت أمرها بقتل الإبن تحملت مخاطر الإجهاض وتكلفته المادية والخزي والعار واللعنة من رب الأرض والسماء لأنها تعلم أنه إنسان، فالقضاء عليه يتطلب مثل هكذا ثمن.
وبحسب التعريف المنطقي للإنسان فالجنين إنسان منطقيا، لأن تعريف الإنسان عند المناطقة هو: "حيوان عاقل"؛ ويقصد بالحيوان؛ كائن نامٍ متغذٍ حساس يتحرك بالإرادة، الشرط الأول "نامٍ" موجود لأن الجنين في نمو مستمر فهو في شهره الأول يكون له حجم معين وفي الشهر الثاني له حجم أكبر من الشهر الأول وهكذا يستمر في النمو، الشرط الثاني "متغذٍ" من المعروف أن الطفل يتغذى بنفسه على ما تتغذى عليه الأم وكيف سيكون ناميا إذا لم يكن يتغذى، الشرط الثالث "حساس" كل من له لحم ودم فهو حساس والجنين ذو لحم ودم فهو حساس يشعر بالألم واللذة، الشرط الرابع "يتحرك بالإرادة" فعلا لا يستطيع أن ينقل نفسه من مكان إلى آخر لكنه يستطيع تحريك يديه ورجليه إلى الأعلى وإلى الأسفل وإلى الأمام.
إلى حد الساعة النصف الأول من التعريف الذي وضعه المناطقة للإنسان ينطبق بشكل كامل على الطفل الذي في بطن أمه. يبقى الجزء الثاني من التعريف وهو "عاقل"، صحيح أن الجنين ليس عاقلا لأن العقل من أكثر الملكات تأخرا من حيث النمو، لكن هذه ليست حجة للخصم لأن الطفل الذي عمره سنة وسنتان لا يكون عاقلا فإذا قيل بأن الجنين ليس إنسانا لأنه ليس عاقلا فلا بأس من قتله، نقول حتى الطفل الذي يبلغ سنة وسنتين ليس إنسانا فلا بأس من قتله لأنه ليس عاقلا، فالذي يقتل طفلا عمره سنة كالذي يقتل طفلا وهو جنين أو في شهره الثاني أو الرابع.
أما أن الإجهاض عملية قتل مكتملة الأركان فهي حقا كذلك، وهذا يبدو واضحا عند تحليل لجريمة قتل، فكل الذين أدانهم القضاء بأنهم قد قتلوا جاؤوا إلى إنسان لم يرتكب ذنبا يخول غيره لإعدامه فقاموا بقتله، أي أنه كان يتنفس ويحس و يتغذى ويتحرك بالإرادة فجعلوه لا يتنفس ولا يحس ولا يتغدى ولا يتحرك بالإرادة، هذا هو الفعل الذي قام به كل الذين أدانهم القضاء بأنهم قتلوا وهذا هو الذي يفعله الإجهاض أو إسقاط الجنين، إن عملية الإجهاض هذه عملية قتل مكتملة الأركان.
أما لو أصبح الإجهاض -أي عملية قتل لإنسان بريء لم يرتكب ذنبا- شرعيا وعملية قانونية فيلزم من هذا قبائح لا تستطيع كل المياه الكونية أن تطهر الحداثيين منها، يجب جعل كل الجرائم من سرقة وإغتصاب وضرب وجرح شرعية قانونية، لأنه من البديهيات الموجودة في فطرة كل الناس أنّ هذه الجرائم أقل شأنا من قتل طفل صغير لم يرتكب أي ذنب يذكر، فإذا كانت هذه الأخيرة لا تستحق عقوبة فإن كل الجرائم لا تستحق أي عقوبة، لأنه لا توجد جريمة أبشع في الإجرام ولا يمكن أن تجد لها تبريرا من قتل طفل بريء.
والذي دفع الطبيب إلى مثل هكذا عمل غير مشرف هو المال ولا شيء غيره، أما الذي دفع الأم إلى مثل هذه الجريمة ومثل هذه القسوة هو كون الأم لم تنجب هذا الطفل بطريقة شرعية عبر المؤسسة الزوجية، وأنا على يقين أن الأغلبية الساحقة من النساء اللاتي يقدمن على مثل هكذا عملية هم مومسات لأن الطفل بالنسبة للأسرة هو عامل تماسك وقوة وهو يشرف الأم بين قريناتها من النساء، أما لغير المرأة المتزوجة فهو وثيقة إدانة من لحم ودم وشهادة على فسقها تمشي على الأرض وتنتقل من مكان إلى آخر.
فمنطق هذه الأم الممسوخة يقول: أقتله لكي لا يقتلني، أقوم بإسقاطه لكي لا يسقطني، أن أجهز عليه لكي لا يفضحني أمام أهل القرية وأهل المدينة، هذا هو منطق هذه الأم وهذه هي الحداثة تبرر قتل بريء لكي لا تفضح فاسقة، وهذه هي خاتمة حريتهم الفردية بأن جعلوا من الأم سفاكة للدماء.