في عصر يحتفى فيه كثيرا بالمؤسسات، وتعلق عليها الأمل، وينتظر منها الشيء الكثير، يجب أن لا ننسى أن البشر بطبعهم كانوا دائما صناع مؤسسات، وأن هذه ليست ظاهرة حديثة، في كثير من الأحيان لم تكن هذه المؤسسات بهذه الضخامة الموجودة الآن وبهذه الآمال العظام لكنها كانت موجودة.
حتى في زمان البشرية السحيق كانت هناك المؤسسة الزواجية والمؤسسة الدينية، وفي اليونان قديما كان معبد دلفي يحسم في القضايا المهمة وقد كان قديما وجود للمؤسسة القضائية، حيث كان الناس بشكل الغرازي يخضعون أنفسهم لرجل فاضل من بينهم لكي يفصل في قضاياهم، وحتى إذا لم يكون مثل هكذا رجل موجودا أصبغوا هم على واحد منهم من الفضائل ما يجعله جديرا بمثل هكذا منزلة، وكانت موجودة مؤسسة الصحة بشكلها البدائي/ والخلاصة الفرق بين الإنسان القديم والحديث فرق في الدرجة وليس في النوع.
لكن هناك فرق جوهري بين المؤسسات التي كان يخلقها الإنسان القديم والإنسان الحديث، فالأول كانت مؤسساته تعبر عنه وعن روحه، هي إنعكاس لروح تلك الأمة على العالم الخارجي لا يوجد انفصال بين العالم الداخلي للإنسان القديم والعالم الخارجي، إن الإنسان القديم لم يعش حالة الاغتراب التي نحن غارقون فيها حتى النخاع.
كان الإنسان قديما يصنع مُثُلا وأفكارا، وبعدها يجعل هذه المثل والأفكار قوة مادية، معابده وشوارعه قانونه وديانته أخلاقه وقادته الفكريين يشبهونه ويشبههم، أما نحن فهذا شيء قد هجرناه منذ القدم، هناك إنفصال بين العالم الداخلي النفسي والعالم الخارجي المادي، هناك حالة إغتراب بلغت من التوتر الدرجة القصوى.
فلنأخد مؤسسة الإعلام والتعليم مثالا لنا، فما هو الشيء الذي يشغل بال أكثر الفئات الإجتماعية فاعلية في المجتمع؟ ونعني الفئة التي يعد العقل أداة عملها الأساسي أي المثقفون، هذا السؤال هو البعث الحضاري وسؤال النهضة وما مشروع عمران إلا إحدى تجليات هذا السؤال لكن أنظر للإعلام في العالم العربي فهو بنسبة لهذا الموضوع ليس قوة مساعدة ولا قوة محايدة! انظر إلى محتواه، برامج قصدها التضليل أو شيطنة جهة ما وهي في الغالب ليست كذلك، أو تلميع جهة ما وهي على الغالب ليست أهلا لذلك، وإما أفلام ومسلسلات، والقصد منها زرع أفكار وقيم فاسدة تقف ضد التغيير والنهضة، تجعل كثيرا من العقول في حالة شلل تام أو مسابقات تنتج نجوما مزيفين، والقصد من هذه المسابقات هو الإلهاء عن المواضيع للأكثر أهمية والأكثر إلحاحا وحيوية.
أما أن الإعلام في الوطن الإسلامي يقف ضد من يعمل على سؤال النهضة والبعث الإسلامي فهذا شيء يعلمه من له معلومات بسيطة عن تاريخ المجتمعات، فمن المعروف أن الإنسان لا ينفق أكثر مما يملك فهذا يصدق على الرصيد البنكي كما يصدق على الرصيد المعنوي، الجهد والوقت والطاقة الفكرية، فهذا الإعلام بهذا التوجه يصرف الكثير من الوقت والجهد في الاتجاه الخطأ.
ومن المتفق عليه، أنّ العصر الذي تكون فيها السياسة مزدهرة، فإن الثقافة والفكر يكون في الحضيض والعصر الذي يكون فيه الفكر والثقافة في فاعلية، فإن السياسة في خمول، فكل واحد يأكل من الآخر وأي زيادة هنا هي نقصان هناك، وهذا كما يصدق على المجتمع يصدق على الأفراد، فعلماء العقيدة الإسلامية أقوياء من حيث القوة العقلية، لكن ضعفاء من حيث الحفظ على عكس علماء الحديث.
فعندما ينشب حريق في البيت ويكون الأبناء والأموال في الداخل، فإن أي كلام في غير كيف نطفئ الحريق وننقذ الأبناء والأموال خيانة، لأن في هذا الظرف لا يوجد عمل أقدس من هذا العمل ولا قول أفضل من قول يحض على هذا العمل، هذا فضلا عن مؤسسة الإعلام في العالم العربي تروج لمثل ونجوم باعتبارهم أكثر الناس تمثيلا للعقل المسلم، أما أصوب الناس رأيا لا يرونهم نجوما ولا مثلا ولا أناسا عاديين بل يرونهم دون المستوى.
التعليم في العالم الإسلامي، إنها مؤسسة أخرى مسؤولة عن ما يوجد داخل العقل المسلم لكن كلنا نعلم أن حال التعليم أكثر سوءا من الإعلام في العالم الإسلامي الذي غايته التضليل والإلهاء، لأن التعليم القصد منه الاخضاع، قد تبدو هذه الكلمة غير متوقعة وغريبة، لكن الأمور تتضح إذا علمنا أن التعليم ينقسم إلى قسمين تعليم يعطى لطبقة بقصد أن يجعلها حاكمة وتعليم يعطى للطبقات بقصد جعلها محكومة.
هناك تعليم يجعل صاحبه في القيادة، وتعليم يجعل صاحبه تابعا، تعليم يجعل طبقة فاعلة وتعليم يجعل طبقات آلات لغيرها، في كلا الحالتين التعليم مغرض وغير محايد.
فالتعليم الأول يندرج تحته تلك العلوم التي القصد منها تنمية تلك الملكة الخاصة بالإنسان وهي العقل وتأثيره على الغير مثل علم السياسة والاجتماع والتاريخ والآداب والفلسفة والمنطق والأديان المقارنة وعلم الأخلاق والبلاغة، فهذه العلوم عندما تعطى لأحدهم فأنت قد جعلته إنسانا وجعلته أفضل مما كان من قبل، وأنت على يقين من أنه ليس هناك أحد يستفيد من مثل هكذا شخص بشكل قبلي لقد أعطيته سلاحا فتاكا لكنك لم تقوم بتوجيهه.
أما التعليم الذي يعطى للطبقات التابعة المحكومة هو التعليم التقني الذي يجعل منها آلة لأصحاب العلوم الأولى، يعطى كيف تصبح فلاحا منتجا طبيبا مشهورا وأستاذ ممتازا فالمصير قد حدد بشكل قبلي وكل قطاع من هذه القطاعات محكومة من قبل أحد هؤلاء الذين نالوا تعليما تقليديا غير تقني وهو المستفيد من إزدهار هذا الحقل وهو الذي شكل رؤيته وإطاره الفكري.
فإذا كان دور التعليم التقليدي التغيير وإحداث حركة في المجتمع قد لا تصب في مصلحة الطبقة المسيطرة، فإنها على هذا الأساس لا تشجع على مثل هكذا تعليم، ولا تدعمه فإنه بطبعه يحمل بذور النهضة والنهضة تعني التغير وهذه الأخيرة في الغالب الأعم تقوم برفع طبقة وخفض طبقة أخرى.
أما التعليم التقني فهو بطبيعته محافظ ولا يفتح أفاق واسعة لأصحابه، ولم يسمع في التاريخ أن أحدا قام بتثوير مجتمع ما وقد كان صاحب تعليم أو فكر تقني، وانظر للثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا أو ثورة الإسلام في جزيرة العرب أو الثورة الإيرانية الأولى قامت على أفكار سياسية واجتماعية، أبطال هذه الحركة جان جاك روسو وفولتير ومونتيسكو أما الثانية قامت على أفكار سياسية واقتصادية أبطال هذه الملحمة كارل ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي!
وعلى من يسعى لتغير هذه الأمة وبعث نهضتها المجيدة أن يبدأ من التعليم والإعلام، فإن لهما تأثير كبير على انحطاط المجتمع المسلم، ولا يخفى على لبيب أن هذا أمر قد دبر بليل، وليس ببعيد أن يكون التغير الذي حصل للإعلام والتعليم في الوطن الإسلامي حصل بعد الإحتلال الغربي لهذه الدول.