معظم دول العالم مهتمة اليوم بمسألة الشفافية ومكافحة الفساد المالي والإداري، وذلك لوجود شعور قوي بأن الفساد يهدد ثروات الدول؛ ولا سيما الدول النامية، كما أنه يشؤه السياسات التنموية، ويضعف الثقة بالمؤسسات العامة، وهو إلى جانب ذلك يلوث بيئات الأعمال، فتصبح أقل قدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية.
والحقيقة أن السنوات العشر الأخيرة شهدت ما يشبه الطفرة في هذا الموضوع؛ حيث صدرت قرارات كثيرة في كثير من الدول العربية والإسلامية بشأن الشفافية ومكافحة الفساد، وصار هناك نوع من التنافس بين بعض الدول حول تحسین مرکزها في التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية المتمركزة في برلين، كما أن تناول وسائل الإعلام المسائل الفساد صار أكثر جرأة وأوسع نطاقا، وهذه كلها مؤشرات إيجابية، لكن مع كل هذا فإن معظم الدول الإسلامية تعاني من درجة منخفضة في الشفافية ودرجة عالية من انتشار الفساد، مما يعني أن الطريق نحو وضعية تسودها النزاهة ما زال طويلا!! وهذه بعض الملاحظات حول هذه المسألة المهمة.
ما معنى الشفافية؟
الشفافية تعني الوضوح والتصرف بطريقة مكشوفة، كما تعني إتاحة المعلومات المتعلقة بالمؤسسة أو الجهة أو الدائرة الحكومية،.. لمن له علاقة بها أو له مصلحة في الاطلاع عليها.
الشفافية تقوم على التدفق الحر للمعلومات وعلى حرص أصحاب القرار على تسهيل معرفة وسائل الإعلام وأجهزة الرقابة والتفتيش والأجهزة القضائية والرأي العام... بأوضاع مؤسساتهم وحيثية القرارات التي اتخذوها وأسبابها، وما ترتب عليها من نتائج، وما أحدثته من تداعيات.
الشفافية مبدأ إسلامي
إنّ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها نموذج لسيرة القائد الفذ في وضوح كل تفاصيلها، وحين تطالعها تجد بساطة متناهية في كل ما يتعلق بحياته الشخصية، وبلغ الأمر في شفافية
حياته الخاصة أن خادمه في فترة من الفترات كان طفلا يهودا، مع أن اليهود كانوا من ألد أعدائه، بل إن شفافيته بلغت به أن يفسر أمورا لم يكن مطالبا بتفسيرها، وهذا ما نجده واضحا فيما ورد من أن زوجه صفية جاءت إليه تزوره ليلا في اعتکافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت فقام رسول الله يشبعها، فلما كانت عند باب أم سلمة رضي الله عنها رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله، وأسرعا في مشيتهما، واستحيا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «على رسلكما (أي لا تسرعا) إنها صفية» فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا." وهذا لا يحتاج إلى تعليق!
وهذا عمر بن الخطاب يزيل شك أحد الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- حول سيرته المالية على نحو ما ذكر من أنه أتت ثياب من اليمن وزعها أمير المؤمنین على الناس، لكل مسلم ثوب، وبقي ثوب لأمير المؤمنين، فلبسه، فوصل الثوب إلى ركبتيه -كان عمر رجلا طويلا- فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك الذي هو حصتك، فأعطاه إياه، فوصل عمر ثوبه بثوب ابنه عبد الله، وصعد المنبر يخطب في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا لما سأحدثكم عنه: فقال سلمان الفارسي: لا نسمع ولا نطيع! فقال عمر: ولم؟ فرد سلمان: لأنك تلبس ثوبين ولبسنا ثوبا واحدا. فقال عمر: يا عبد الله قم فأجب، فقام عبد الله والناس سکوت فقال: إن أبي رجل طويل لا يكفيه ثوب، فأعطيته ثوبي، فوصله بثوبه، ولبسهما. فقال سلمان: يا أمير المؤمنين الآن قل نسمع، ومر نطع.
إن هذه الواقعة تعبر عن سهولة تواصل الناس مع أمرائهم، وتعبر عن سهولة وصول الرعية إلى المعلومة، وإلى التفسير الذي يحتاجون إليه. وأنا أود أن يقدم الصحويون نموذجا متألقا في الشفافية من خلال سيرتهم الشخصية، ومن خلال مؤسساتهم المختلفة، أتمنى أن يقدم كل صحوي يتقلد منصبا رفيعا بيانا بممتلكاته المنقولة وغير المنقولة، وأن يقدم بيانا آخر بها عند تركه للمنصب، وأتمنى أن تكون المؤسسات التي يديرها صحويون قدوة لغيرها في الوضوح والشفافية والنزاهة، ولا ينبغي أن يقتصر هذا على الوظائف والمؤسسات التجارية، بل ينبغي أن يظهر في الأعمال الدعوية أيضا، وقد كنت ذكرت أن معظم الصحويين لا يميلون إلى الحديث عن المشكلات التي واجهت مؤسساتهم الدعوية وجماعاتهم، ولا يمارسون التحليل والتعليل عند الحديث عن مسيرتهم الدعوية وهذا يشكل أزمة لمن يحاول فهمهم والكتابة عنهم بل لمن يريد أن يتعامل معهم!
تدعيم الشفافية
الفساد موجود في كل المجتمعات بنسب مختلفة، وهناك شعور عام في معظم بلاد العالم بضرورة محاصرة الفساد والمفسدين، وينبغي أن ننظر إلى نقص الشفافية وما يلازمه من الفساد على أنه فشل المؤسسات في تنظيم وضعها على نحو جيد وفي ضبطها قانونيا ومحاسبتها قبل أن يكون نقصا في الوازع الديني أو نقصا في التربية والاستقامة لدى بعض الأفراد.
السؤال الذي يطرح نفسه: هو ما الذي يجب القيام به من أجل تدعيم الشفافية وجعلها جزءا من منهجنا في حياتنا العامة؟ لعلي في مقاربة هذا الجواب أوضح الآتي:
1- التكتم والعمل على أن يكون كل شيء مبهما جزء من ثقافتنا، ومنا من يفعل ذلك خوفا من العين أو الحسد، ومن يفعله خوفا من كيد الآخرين أو تداول سيرته وأوضاعه على ألسنة الناس... ويبدو أن تشجيع البوح والتحدث عن الخبرات الشخصية والأوضاع الخاصة والعامة يظل من مسؤولية قيادات المجتمع ومثقفيه؛ لأن الناس يقتدون بهم، وإن كتابة السير الذاتية، بالإضافة إلى التحدث إلى وسائل الإعلام والتفاعل مع تساؤلات الإعلاميين من الأمور التي تساعد على ذلك.
2 - كلما كانت المؤسسات والجهات الحكومية المختلفة أفضل تنظيما صارت الشفافية أعلى، وتراجع الهدر والفساد، وفي هذا السياق فإن المهم أن يكون هناك تحفيز على التنظيم الجيد للقطاع العام والخاص، وإن من جملة ذلك وجود رؤية ورسالة وسياسات واضحة لجميع المؤسسات الخاصة والعامة، وأن يكون لديها مواقع على الانترنت تفصح فيها عن أنشطتها وعقودها وخططها المستقبلية وكل ما يجعلها أكثر وضوحا، وكل ما يجعل معرفة الناس بها وبعلاقاتها ومعاملاتها أفضل.
3- يجب أن يشعر جميع موظفي الحكومة والقطاع الخاص أنهم قد يتعرضون للمساءلة الجادة والدقيقة في أي وقت، وينبغي أن يكون هناك قانون يلزم الجميع بالرد على التساؤلات التي تثيرها الصحافة والرد على التهم التي توجه إلى أي منهم من أي جهة كانت، وهذا يعتمد في الحقيقة على نشاط الهيئات الرقابية، وعلى حيوية المجتمع في متابعة مصالحه وحماية مكتسباته، وإن عدم اهتمام الناس بإصلاح مجتمعاتهم وتتبع المفسدين وتوثيق إساءاتهم يشجع على انتشار الفساد؛ ولهذا فإن صلاح المجتمع وطهارته واستقامة أموره، مسؤولية عامة، لا يكاد يستثنى منها أحد، والمشكل أن معظم الناس لا يعرفون شيئا عن إساءة استغلال السلطة، ولا عن الممارسات الإدارية الخاطئة، كما أنهم لا يملكون الثقافة التي تمكنهم من الإسهام في مكافحة الفساد، وهذا أحد ضرائب التخلف.
4 - إن (الأتمتة) تساعد كثيرا على تقليل الفساد؛ حيث يتراجع دور الموظف في الكثير من الإجراءات، ولعل عدم تسلم الموظف للمال بسبب السداد الإلكتروني للرسوم والمخالفات وأجور الخدمات... من الفوائد الظاهرة للأتمتة في هذا!
5 - يجب أن تقدم كل مؤسسة ومنظمة وهيئة تعهدا مكتوبا بإتاحة كل ما لديها من معلومات عن عملياتها وعلاقاتها لكل من له علاقة بها من العملاء ورجال الإعلام والقضاء والباحثين مما لا يؤثر على مصالحها وخططها المستقبلية.
أ- أعتقد أن كل بلد إسلامي في حاجة إلى هيئة وطنية للنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد، ويجب أن تكون صلاحيات هذه الهيئة واسعة جدا، وأن تقدم لها كل التسهيلات الممكنة والحقيقة أن كثيرا من الدول العربية والإسلامية قد أنشأت هيئات ولجانا وطنية للنزاهة، لكن تأثيرها في الحد من الفساد ما زال محدودا، وربما كان السبب في ذلك محدودية ما تملكه من تفویض وضآلة ما لديها من إمكانات.
6-لابد من تعزيز القيم الدينية والأخلاقية الفاضلة؛ حيث إن ضعف الإيمان وضعف الضمير والرقابة الداخلية من الأسباب الأساسية في جعل الناس يقعون في المحرمات والشبهات دون خوف أو نظر في العواقب، والحقيقة أن الأسرة مسؤولة مسؤولية كبيرة عن بناء الوازع الداخلي وإيقاظ شعور الأبناء حيال الحلال والحرام في مسائل الرزق والكسب والتعامل المادي عامة، وأعتقد أن لنا أن نعول على الأمهات والزوجات في هذا الأمر؛ وذلك لسببين:
الأول: هو أنهن يقمن بمعظم العبء التربوي في البيوت وتأثيرهن في الأبناء أعظم من تأثير الآباء.
الثاني: أن حساسية المرأة نحو الكسب الحرام أفضل من حساسية الرجل في أكثر الأحيان، وكم رأينا من الزوجات الفاضلات اللواتي وقفن سدا منيعا في وجه الكسب غير المشروع الذي كان يستسهله الأزواج، وينغمسون فيه وعلى الدعاة والوعاظ وطلاب العلم، وخطباء المنابر أن يركزوا في أحاديثهم على تعليم الناس الأحكام الفقهية عامة، وما يتعلق بالمعاملات خاصة؛ لأن كثيرا من الناس لا يملكون أي ثقافة شرعية في هذا الشأن، وحبذا لو كان لدينا سلاسل فقهية مبسطة حول قضايا الربا والعقود والعلاقات المالية عامة، فالناس في أمس الحاجة إلى هذا؟
7- لبيئة العمل تأثير كبير في استقامة الموظفين وانحرافهم، وإن من سمات بيئات العمل الجيدة الآتي:
أ- شعور العاملين بالرضا عن أوضاعهم الوظيفية، وذلك على صعيد الأجور والمرتبات والمكافآت وعلى صعيد التعامل الأدبي والاجتماعي، ونحن نعرف أن كثيرا من الفاسدين يعملون في بيئات جيدة، وتتمتع بكل المواصفات المطلوبة، كما أن كثيرا من المرتشين هم من أصحاب الثروات، ولهذا فإن الحديث عن البيئة وتحفيزها على الاستقامة ليس صحيحا.
وأنا أقول: إن الذين يخرقون النظم القانونية والمالية في البيئات السيئة أضعاف هؤلاء، ونحن حين نتحدث عن البيئة الجيدة لا نقصد أن الإنسان حين ينال كل حقوقه يصبح صالحا، وإنما نقصد أن البيئة الجيدة تقلل مسوغات الفساد، كما تقلل فرص حدوثه.
ب - الإهمال وضعف الرقابة سببان جوهريان لحدوث الفساد؛ ولهذا فإن المتابعة الموضوعية من قبل المدراء والرؤساء ذات تأثير كبير في نزاهة الموظفين واستقامتهم، والمشكل هنا أن بعض المدراء يتواطؤون مع بعض موظفيهم، ومن هنا فإنه قد ورد ما يؤكد تأكيدا عظيما على صلاح من يتولى مناصبا قيادية أو إدارية والتحذير الشديد من التساهل في ذلك أو تجاهله.
ج - لو نظرنا إلى المؤسسات الفاشلة فإننا نجد أنها مشحونة بالخلافات والتحزبات والمؤامرات، ونجد أنها ممزقة من الداخل؛ حيث ينتقد كل موظف رؤساءه وزملاءه، ويتلقی النقد منهم. في جو كهذا يسهل انتشار الفساد، وتفقد العناصر الصالحة هيبتها وتأثيرها؛ ولهذا فإن بث الروح الجماعية في المؤسسات الحكومية والأهلية على درجة عالية من الأهمية، وإن تناول الطعام والرحلات وممارسة الرياضة والتدريب... كل ذلك حين يتم بصورة جماعية يعزز الرابطة النفسية والروحية، وتصبح بذلك بيئة العمل أقرب إلى الصلاح.
8- مهما صار التفكك الاجتماعي مستفحلا، فإن الناس يظلون حريصين على سمعتهم وحذرين من أن يتهموا بالسرقة أو الرشوة أو الاحتيال... ولهذا فإن من المهم أن تتاح الفرصة لوسائل الإعلام کي تسهم في كشف الفساد والمفسدين. لا شك أنه قد يتهم بعض الأبرياء، وقد تشوه سمعة إنسان بسبب خطأ مقصود أو غير مقصود، كل هذا وارد لكن ميزات حرية النشر أكبر بكثير من هذه المحاذير، ويجب أن يكون القضاء حاسما ونشطا في الفصل في الخصومات حتى ينال الذي يتهم الناس، بغير علم وبغير دليل العقوبة المناسبة. وإذا تأملنا في أحوال العالم المعاصر، فإننا نجد أن منح وسائل الإعلام حرية النشر لا يقضي على الفساد، لكنه يلجئ المفسدين إلى أضيق الطرق، وبهذا تتراجع نسبة الفساد، وتختفي صور الفساد الفج والمكشوف.
9 - هناك ظروف محددة تساعد على انتشار الفساد أكثر فأكثر، ومن تلك الظروف ثلاثة ظروف أساسية:
أ- مرور البلد بمرحلة حرب أو بأحداث عنف كبيرة تؤدي إلى اضطراب النظام العام، ويؤيد هذا أن أكثر الدول فسادا حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية دول محرومة من السلام؛ مثل: الصومال وأفغانستان والعراق.
ب - النمو السريع والتحديث عالي الوتيرة من عوامل انتشار الفساد؛ حيث يفقد المجتمع توازنه الداخلي، فتتآكل بعض القيم، وتبرز مصادر جديدة للدخل وتلوح فرص للكسب وبناء النفوذ على نحو غير مألوف، ولدينا شواهد كثيرة على هذا.
ج- حجم الدولة؛ إذ إن من الواضح أنه كلما زاد عدد أفراد الشعب صارت إمكانية الفساد أكبر، وهذا واضح جدا، في تقرير منظمة الشفافية الدولية؛ حيث إن الدول العشر الأشد شفافية دول صغيرة، كما هو الشأن في فنلندا وإيسلندا وسنغافورة والنرويج والسويد والدنمارك. ويبدو أن الناس حين يكثرون في بلد تصبح سيطرة الحكومة عليهم أصعب، كما أن انتقال المبادئ والآداب من جيل إلى جيل يصبح أضعف بسبب إرهاق متطلبات المعيشة.
إن الشفافية مطلب خلقي واقتصادي، كما أنها أداة من أدوات التنمية الجيدة؛ ولهذا فإن من المهم الالتزام بها في كل ميادين الحياة.