ميثاق عناصر الأمة لا قومياتها
في حديث مع المفكر الإسلامي التركي أ. توران کیشلاكجي، استحضر الصديق العزیز دعوة بعض مفكري الأتراك القدماء، منذ بدء ضعف السلطنة العثمانية، لوضع ميثاق لما أسموه توحید عناصر الأمة الإسلامية، وكان ذلك بعد رصد واضح لاستراتيجية الأمم الغربية المتحدة لتفتيت الشرق، ولم تكن في ذلك الوقت اتحاد ولا منظومة سياسية، لكنها كانت تكتة عقائدية، يستدعي المسيحية إيمانا بهويتها الجامعة للآريين الغربيين، وجسر لأطماع الهيمنة المادية على الشرق.
وفي تقديري أن كلتا النزعتين قائمة اليوم، في العقيدة الاستراتيجية للغرب، سواء الغرب الجديد أي الولايات المتحدة الأمريكية، أو الغرب القديم الذي يحتويه الاتحاد الأوروبي، إضافة لروسيا الأرثذوكسية، من القياصرة إلى العهد الجديد..
ورغم وقوع صراعات وحروب کبری أهلية ودينية وسياسية بين هذا الغرب، إلا أن مجمل مفاهيم هذه العقيدة الاستراتيجية متواجدة، وإن غلبت نزعات المصالح القطرية لكل منها، فالمصالح في الشرق محرك رئيس، لأدوات الهيمنة الغربية.
استشراف مبكر لتفجير الصراعات القومية
كان الباعث لهذا التفكير، بحسب حديث أ. توران، هو إدراك قطاع من الحركة الفكرية التركية، وهنا الحديث يمتد إلى ثلاثة قرون، أن تلك النخبة لمست مشاريع تنفيذية لتمزيق الأمة عبر صراع عناصرها، وهذه العناصر هي القوميات العربية والتركية والكردية والفارسية، وبالتالي ضرب وحدة الأمة الإسلامية، وقوة ممانعتها كأمة رسالة وهوية جامعة، يفترض أن تنظم مصالحها ووحدتها ومیثاقها، في مواجهة حرب تفجير العناصر.
ولقد أعجبني كثيرة مصطلح عناصر الأمة لا قومياتها ولا أقلياتها، فهو مصطلح يتجاوز كل الحساسيات والاستخدامات الغربية، ومن المهم أن نأخذ بالاعتبار، أن أفكار هذه الوحدة كانت تشغل المرجع السياسي لأولئك المفكرين، وهي الأستانة، وقد يكون بعض الهم والقلق مبعثه إسلامي مبدأي، لكن الخشية على فقدان قوة السلطنة، في أي إقليم، كان حاضرا أيضا بطبيعة الأمر.
لا رومانسية في مواثيق اليوم
القضية المهمة التي يجب الالتفات لها اليوم هي أن الرومانسية في تقييم صراعات العلاقات البشرية، ومبدئية الإنسان وحقوقه في التاريخ القديم، بما فيها حروب أوروبا وقطع الرؤوس بين الثوار والملكية الكنسية، لا وجود له في مثل المبادئ الحديثة، التي لا تزال نقض من قبل مشرعيها الدستوريين في الغرب إلى اليوم، حين تتعارض مع مصالحهم المادية بعد الحربين العالميتين، فضلا عن حقائق إبادة الهنود الحمر في ميراث التاريخ الأمریکي.
ونقصد من ذلك أن مساحة المواجهة، التي قامت بها الدولة العثمانية الحماية سيادتها ومناطقها المدنية، بعد مذابح متوحشة تعرضت لها، كانت جزء من الدفاع المشروع بل والضروري، لمنع تحقيق حلم التفتيت الغربي، وقد منعت بالفعل مذابح ربما كانت ستذهب بملايين من البشر من المسلمين وغيرهم، لو لم تقف القوة العثمانية للبغي والأطماع الأوربية القديمة وتصدها.
السبيل إلى وحدة حقيقية
إن السؤال الكبير هنا، هو كيف تتحقق وحدة الأمة، وهل ممكن أن تتحقق من دون قوة، وما هي القوة، هل هي قوة النهضة والعدالة التي نص عليها التشريع (الحكم العدل بيد الحاكم وفسيلة التنمية بيد المجتمع يزرعها إلى قيام الساعة)، أم قوة البطش والصراع بين المتغلبين، هذا في مستوى الدول.
وهل استراتيجية إنقاذ الشعوب من حروب الطغاة، تقوم على تحويل بلدانهم أرض محروقة، لقتال لا يتوقف باسم السلفية الجهادية، وتنقل حرائق الحروب، أم بدعم مقاومة مركزية، تنتهي لما يمكن تحقيقه على أرض الواقع كنصر واستقرار سياسي، يتدافع مع البغي والتخلف، وتسلم به أرواح الشعب، وتخرج للحياة من جديد، لتشارك في معادلة الوحدة والنهضة للأمة.
حرب الوجدان وحرب الأوطان
أما مستوى الوعي والإصلاح الاجتماعي والبناء الواعي للعقل المسلم، فإن مسارات إخراجه من حروب الوجدان وصراع المذاهب، وتنظيمها قدر الاستطاعة، وحمل الناس على تحقيق معادلة تكامل واسعة الأدوات للنهضة، بعد ضخ خطابها الفكري لليقظة الجديدة، هو المدخل لإرساء المعادلة الغائبة.
إن ظاهرة السباق في ملاعنة المذاهب والقوميات وتكفيرها دينية ومدنية، لن تحقق قوة جامعة ولا راشدة، والاعتراف بحق عناصر الأمة في الشرق ومساواتها، لا بد من اعتقاده وهو نص قطعي الدلالة لكل إنسان خارج الشرق وغربه، دخل في أمة الإسلام، أو كان في عهدها وجوارها المدني.
الاستقلال الاجتماعي لا يناقض التكامل الوحدوي
ولذلك لا بد من وقف التعميم في الصراع مع الطائفية السياسية والعرقیات، وإدانة وتجريم من تولى جريمة البغي وشارك فيها، لا تعميمه على كل مذهب أو قومية، وظف بعض أهلها في أدوات الصراع لمصالح الغرب، وهو موجود بكثافة عند العرب كما عند غيرهم، ولا يجوز مطلقا أن تشرع العنصرية والكراهية القومية، فكيف بجريمة شرعنتها دينية كما يجري اليوم.
إن مفهوم التكامل والتآخي الوحدوي اليوم لأمة الشرق، ينبغي أن يدرك مساحة الاستقلال الاجتماعي الطبيعية، التي تعامل معها الإسلام بين الشعوب والجماعات، فالعرب ستظل لهم رابطة وعناصر داخلية اجتماعية، وكذلك الترك والكرد والفرس، لا يستطيع الناس نزع ذواتهم من أعراقهم، ولكن الإسلام نظم روحهم ومواطنتهم، ولم يصادم ما فطرهم الله عليه.
الميدان الاستراتيجي للأمة
وهنا يعود التركيز إلى الميدان الاستراتيجي الواسع للأمة، والذي يعيش مخاض صراع وحروب عنيفة، تستخدم مباشرة حاليا في حرب عناصر الأمة، والمهمة الإطفائية لها ضرورة في كل مساحة ممكنة، وتتزامن مع صناعة فكر النهضة، ودحرجة قوة القرار السيادي الراشد لكل قطر لتحقيق قوته الذاتية، ودفعه للتفكير وبوسائط مصلحية، لتحقيق معادلة جمعية لا قطرية كما يجري، فالقطرية تحولت إلى أمة وهمية متضخمة، لا تحمي ذاتها ولا جوارها ولا مرجعها الأممي، وبالتالي ترتب جسورها مع تاجر الحروب الغربي، على حساب جوارها المسلم، وهو ما لم يصمد أبدا، بل ستعود الدائرة عليه.
لكن هذا لا يعني ألا يدير هذا القطر وذاك مصالحه بذكاء، ما دام في النهاية لن يمس مصالح الأمة وشعوبها المضطهدة، وتقدير أخلاقياته تقاس بالمآلات، لا بورصة الإعلام، وتبقى القاعدة قد يجوز لهذا الضلع من الأمة أو ذاك ألا يفعل الخير المطلوب لعجزه عنه، لكن شراكته في الشر الظاهر جناية مؤكدة على أمته، وهي أحد أبرز مآسي فرقة الأمة.