ما إن أعلِنَت قراراتُ إيقافِ صلاةِ الجُمعةِ وصلواتُ الجماعة تباعًا في البلاد المختلفة إيقافًا احترازيًّا للمساهمة في الحدّ من انتشار فيروس كورونا حتّى بدأت تنتشر المقاطع للمؤذّنين الباكين وهم يردّدون عبارة "صلُّوا في رِحالِكم" أو "صلُّوا في بيوتِكم" التي تحلّ عوضًا عن عبارة "حيّ على الصّلاة" في الأذان.
وكذلك مقاطع الأئمّة الذين تتهدّجُ أصواتُهم وهم يعلنون للمصّلين أنّ صلاتهم التي سيصلّونها ستكون آخر صلاة جماعة، وأنّ المنع سيبقى إلى "أن يرضى الله عنَّا".
مطرودون من رحمة الله تعالى
وبعد انتشار هذه المقاطع وعلى جانبٍ موازٍ للمعركة الفقهيّة التي اشتعلت حول جواز إغلاق المساجد وإيقاف الجمعة والجماعات؛ فقد انتشرت مقاطع مرئيّة ومنشورات مكتوبةٌ لدعاةٍ ووعّاظٍ وخطباء تفسّر الخلفيّات الإيمانيّة لهذه القرارات.
والغالب الأعظم من هذه التّفسيرات قام على التّفسير الانتقاميّ القائم على أنّ الله تعالى غاضبٌ من عباده وساخطٌ عليهم لذلك طردهم من بيوته ونقم عليهم فحرمهم من صلاة الجمعة والجماعة!
وهذا التّفسير عجيبٌ ينصّبُ فيه أصحابه مكان الله تعالى في الحكم على الآخرين بل الحكم على مجموع الأمّة، ويتدخّلون في اختصاصه جلّ في علاه في تقسيم الرّحمات وتوزيعِها وإمساكِها إضافةً إلى مخالفة هذا التّفسير عموم النّصوص التي تشير إلى أنَّ الأوبئة التي تصيب الامّة هي علامة رحمة لا علامة انتقام.
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الطّاعون فأخبرني أنّه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، ليس من عبدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد"
ففي الحديث تصريحٌ واضح بأنَّ الأوبئة المنتشرة هي رحمةٌ للمؤمنين؛ فكيفَ يكونُ إغلاق المساجدِ ومنع الجماعات بسبب هذه الأوبئة طردًا من الرّحمة إذن؟!
والوصفُ بالعذاب في هذا الحديث لا يقتضي معاني الانتقام والطّرد، بل إنَّ العذاب قد يكون منطويًا على التّأديب والإيقاظِ من الغفلة والأوبة إلى الرّشد فهو عقابُ تأديبيّ يحملُ معاني الرّحمة بشكلٍ جليّ، وقد قال الله تعالى مبيّنًا أنَّ العذاب ينطوي على رحمةٍ بالغة: "وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"
ثمّ إنَّ الأوبئة قد أصابت عصر الصّحابة الذي هو بنصّ الأحاديث وإجماع الأمّة خير القرون، ومع ذلك اجتاحهم الطّاعون الذي مات فيه آلاف المسلمين وفيهم ثلّةٌ من أكابر الصّحابة منهم معاذ بن جبل، وأبو عبيدة عامر بن الجرّاح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو جندل بن سهيل بن عمر وأبوه، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين.
ولم يتعامل الصّحب الكرام رضي الله عنهم مع هذا الوباء على أنّه انتقامٌ إلهيّ أو طردٌ من رحمة الله بل على العكس تمامًا تعاملوا معه على أنّه عنوانٌ من عناوين رحمته تعالى.
فها هو أبو عبيدة عامر بن الجرّاح الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنّه أمين هذه الامّة يقفُ في النّاس خطيبًا في طاعون عمواس قائلًا لهم: " أيها الناس؛ إنّ هذا الوجع رحمةٌ بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم، وإنّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظّه"
وكذلك معاذ بن جبل الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: "معاذ بن جبل أعلم أمّتي بالحلال والحرام" فقد استشهد في طاعون عمواس هو وأولاده، وقبلَ موته وصلَه قول عمرو بن العاص: "إنّ هذا الرّجز قد وقع ففرّوا منه إلى الشّعاب والأودية" فوقف معاذٌ خطيبًا في النّاس يصحّح توصيفَ الوباء فقال كما يروي الإمامُ أحمد في المسند: "بل هو شهادةٌ ورحمةٌ ودعوة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم"
وعلى هذا سار الأئمة الأعلام في التّعامل مع الوباء؛ فألّف ابن حجر العسقلانيّ كتابًا أسماه "بذل الماعون في فضل الطّاعون" فصّل القول فيه في كون الوباء رحمةٌ من الله تعالى بالأمّة لا طردًا وانتقامًا إلهيًّا.
فإذا كان الوباء رحمةً بالأمّة؛ فكيف تكونُ إجراءاتُ التّعاملُ معه ومنها إيقافُ صلاة الجمعة وصلوات الجماعة طردًا من الرّحمة وانتقامًا وسخطًا إلهيًّا؟!!
ثمّ أليس من المطلوب شرعًا التّعامل في هكذا ظروف استثنائيّة بالرّخص لا العزائم، والتّوقّف عن الجمعة والجماعات من هذه الرّخص التي هي عنوانٌ عريضٌ من عناوين الرّحمة الإلهيّة فكيف تغدو الرّخصة هنا انتقامًا إلهيًّا وطردًا من رحمة الله تعالى؟!
إنَّ إغلاق المساجد ومنع صلوات الجمعة والجماعة التي هي من أعظم القربات للحفاظ على صحّة النّاس هو من أبرز تجليّات الرّحمة الإلهيّة بالإنسان؛ فأيّ شيء أعظم رحمةً من أن يشرع الخالق التّنازل عن فرائض فرضها وقربات شرعها وعبادات يتقرّب بها الخلق إليه حفاظًا على صحّة مخلوقه؟!
إنّ هذا التّفسير الانتقائيّ والانتقاميّ وجلد عموم المسلمين وطردهم من رحمة الله تعالى سينعكسُ أيضًا سلوكيًّا على النّظرة الفرديّة للمرضى المصابين بهذا الوباء على أنّهم أشرارٌ مسخوطون ينتقم الله منهم؛ فيتحوّلون في العقل الجمعيّ إلى أعداء لله تعالى وللمجتمع ينظر النّاس إليهم بنبذٍ وازدراء ونفورٍ وخوف، بينما هم ضحايا ومرضى وأهل ابتلاء يحتاجون الرّحمة والشّفقة والاهتمام والعناية.
فمن رحمة الله تعالى أنّه لم يجعل رحمته بيد أحدٍ من خلقه أو الدّعاة إليه، وصدق الله تعالى القائل في كتابه: " قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا"
إنَّ الخطاب الدّعويّ الذي يستحضر معاني رحمة الله ولطفه وتجليّاتها في السلوكيّات الاحترازيّة الوقائية من الوباء ومنها إيقاف صلوات الجمعة والجماعة، الى جانب الدّعوة إلى الضّراعة والالتجاء إلى الله الرّحمن الرّحيم اللطيف الخبير جلّ في علاه؛ هو الخطاب هو الذي يبعث في النفس السكينة والهدوء ويزرع فيها الطمأنينة؛ والنّاس الآن أحوج ما يكونون إلى السّكينة والهدوء والطّمأنينة.
من وجع الرّوح إلى إبهار العقل
من الطّبيعيّ أن يكون إغلاقُ المساجد وإيقافُ الجمعة والجماعات موجعًا للرّوح لا سيما لأولئك الذين تعلّقت قلوبهم بالمساجد، وواظبوا على الصّلاة فيها وبَنَوا بينهم وبين المحاريب علاقة روحيّة راسخة.
ومن الطّبيعيّ أن يكون نداء المؤذّن "صلُّوا في رحالكم" مؤلمًا لقلبِ السّامع حتّى ولو لم يكن من أهل المساجد؛ لكنّ الإغراق في خطاب دعويّ رثائيّ بكائيّ يختزل المشهد في الحرمان والحنين فيه ظلمٌ كبيرٌ للصّورة.
فالوجه الآخر للصّورة هو ما يجعل العقل يقفُ بإجلالٍ وانبهار أمام عظمة التّشريع الإسلاميّ، فنداء "صلّوا في رحالكم" الذي جاء للحفاظ على صحّة الإنسان هو دلالةٌ واضحةٌ على أنّ الرّكن الأعظم والكيان الأهم والبناء الأغلى والأثمن على الإطلاق في الإسلام هو الإنسان.
إنّ استحضار قيمة الإنسان والتّنازل عن كلّ ما يمكنه التّأثير على صحّته وحركته وانطلاقه في إعمار هذه الأرض حتّى ولو كانت شعيرةً من أعظم الشّعائر لهو معنى ينبغي أن يقفَ الخطاب الدّعويّ أمامه مليًّا في أزمة الوباء وإيقاف الجمعة والجماعات؛ ليقول للبشريّة كلّها: هذا هو الإسلام.