الفيروسات كائنات دقيقة للغاية، لا تستطيع المشي أو الزحف، وبالتالي هي في حاجة دائمًا إلى عائل خازن لها من الكائنات الحية، والفيروسات ليست ضيفًا على كوكبنا، بل هي جزء من كوكبنا وتعيش عليه منذ ملايين السنين بداخل الكائنات الحية الخازنة لها في سلام دائم يتخلله أحيانًا بعض المناوشات البسيطة بين الفيروس والكائن الحي الخازن له.
الفيروسات وغيرها كالبكتيريا ليس لها عداء مع الإنسان، ولا تهاجم الإنسان على وجه الخصوص، ولكن أنشطة الإنسان على هذا الكوكب هي التي تسبب تحلل وتفكك النُظم الإيكولوجية البيئية التي تجعل الفيروس يخرج من مخبأه مهاجمًا الإنسان!
فتمزيق النُظم "الإيكولوجية" الطبيعية هي سبب ظهور الفيروسات القاتلة مثل فيروس كورونا والإيدز وهيندرا وإيبولا وغيرهم.
فكلما تحللت وتفككت النظم الإيكولوجية الطبيعية كلما كانت الفيروسات أكثر إنتشارًا، تُعد الغابات على سبيل المثال موطن ومستقر لملايين الفيروسات المجهولة بالنسبة للإنسان والقضاء على الغابات وإزالتها يشبه أن يكون هناك منزلَا يسكنه بعض الأشخاص، فيتم هدم ذلك المنزل فيكون لهؤلاء الأشخاص خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يظلوا في مكانهم رغم هدم المنزل فيهلكوا، وإما أن يبحثوا عن منزل جديد يسكنوه، وهذا بالفعل ما تفعله الفيروسات؛ حين يقوم الإنسان بهدم منزلها تختار بين أن تظل في مكانها رغم هدم المنزل ومن ثمّا تنقرض، وإما أن تهاجر باحثةً عن منزل جديد تسكنه. وغالبًا ما تبحث عن منزل جديد -عائل- وهو أحد الكائنات الحية.
ومثلًا على ذلك ظهر أحد الفيروسات في مدينة هيندرا بمقاطعة كوينزلاند بأستراليا في شهر سبتمبر عام 1994، وبالتحديد في كانون هيل سقطت إحدى الخيول ميتة، وتم تشخيص الوفاة على أنها لدغة ثعبان.
ولكن بعد مرور عدّة أيام تساقطت الخيول الواحد بعد الآخر، بل ووفاة مدرب تلك الخيول، فلفت ذلك أنظار السلطات الأسترالية مما دفعها للبحث في أمر وفاة تلك الخيول ومدربها.
وبالبحث تبيّن أن الخيول أُصيبت بفيروس قاتل وهو مرض حيواني مشترك (ينتقل من الحيوان إلى الإنسان فيقتله) وتم تسميته على اسم المدينة التي ظهر فيها ( فيروس هيندرا).
وتم انتداب الدكتور(هيوم فيلد) للبحث في أمر فيروس هيندرا، وقام دكتور فيلد بالبحث عن الكائن الحي الخازن للفيروس بين الكائنات الحية في تلك المنطقة التي ظهر فيها، وقام فيلد مع فريقه باصطياد القوارض وأخذ عينات دم منها لفحصها والبحث عن أجسام مضادة لهذا الفيروس فيها، حيث إذا تم العصور على أجسام مضادة معناه أن ذلك الكائن مصاب بالفيروس أو كان قد أصيب به من قبل.
ولكن لسوء حظ الدكتور فيلد لم يجد أي أجسام مضادة في عينات الدم لأي من الحيوانات التي أمسك بها، وأخذ يتساءل: إما أنه قد أجرى بحثه في المكان الخطأ، أو في التوقيت الخطأ!
فتم ترجيح أنه فيروس موسمي، وأخذ الفريق يُكمل البحث الذي بدأ من شهر مارس إلى شهر أكتوبر دون أي جديد يذكر، حتى جاءت أنباء جديدة، أن شخص اسمه (مارك بريستون) في بلدة (ماكاي) على بعد 600 ميل من المكان الذي ظهر فيه فيروس هيندرا، توفى بعد دخوله المستشفى ب 25 يوم، وبعد فحص عينة دم أخذت منه، وتم العثور على أجسام مضادة لفيروس هيندرا.
وبعد فحص أنسجة من المخ بعد وفاته تبين أنه مصاب بفيروس هيندرا منذ عام كامل ولكن الفيروس كان ساكن طوال تلك الفترة ثم عاد لنشاطه وقتله!
وقد تبين بعد ذلك أن بريستون توفى له أثنين من الخيول منذ عامٍ مضى، وكان قد تم أخذ عينات منها، فتم الرجوع للعينات وظهر أن الخيول كانت مصابة بفيروس هيندرا ونقلته لبريستون!
وذهب دكتور فيلد مع فريقه إلى ماكاي وقام بنفس الأمر الذي فعله في كانون هيل، وهو اصطياد القوارض وفحض عينات الدم، ولكن دون وجود أي أثر للفيروس في الحيوانات المتواجدة في ذلك المكان أيضًا!
ظل الأمر على ما هو عليه إلى يناير 1996، حين اجمتع فيلد مع فريقه ودخلوا في جلسات من العصف الذهني، وقد اتفقوا جميعًا أن ذلك الحيوان الخازن للفيروس لابد أن يكون:
- دائم التنقل.
- قادر على الترحال لمئات الأميال بطول ساحل كوينزلاند.
ومن هنا اتجهت الأنظار نحو الطيور، وعلى وجه الخصوص إلى الخفافيش! لجأ فيلد إلى أحد الصيادين الذين يقومون بتربية الخفافيش وأخذ عينة من دم أحد الخفافيش وقام بفحصها، ولحسن الحظ وجد ما كان يبحث عنه، وجد أجسام مضادة لفيروس هيندرا!
لكن هذا لم يكن كافي بالنسبة لهيوم فيلد، لأن ذلك لا يكفي كدليل قاطع على أن الخفافيش هي الحيوان الخازن -المستضيف- لفيروس هيندرا، حيث قد تكون الخفافيش مثل الخيول مصابة بالفيروس وليست مضيفة أو خازنه له!
فقاموا بفحص أكبر عدد ممكن من الخفافيش بأنواعها الثلاثة، فوجدوا أن 50% من الخفافيش تحتوي على فيروس هيندرا، بل ذهب هيوم فيلد إلى قسم " الصناعات الدوائية " وكان لديهم عينات دم لخفافيش منذ 10 سنوات مضت، وتبين أنها تحتوي أيضًا على فيروس هيندرا!
فثبت بذلك أن الخفافيش هي الكائن الخازن - المضيف - لفيروس هيندرا، وقد قامت الخفافيش بإصابة الخيول بذلك الفيروس، التي بدورها نقلت العدوى للإنسان!
بعد ذلك قامت الأخصائية الوبائية (ليندا سيلفي)، بمقابلة 128 شخص من رُعاة الخفافيش مستعدين لإجراء اختبار لهم، وتم إعطائهم استبيان يملأه كل منهم، وكشف الاستبيان أنهم:
- من المخالطين للخفافيش.
- أنهم مارسوا معها ملامسة طويلة ووثيقة.
- أنه كثيرًا ما نالهم منها خدش أو قرص!
وكانت النتيجة بعد فحص عينات دم رُعاة الخفافيش = سلبية! ليس عندهم فيروس هيندرا أو أجسام مضادة له، لم يتم إصابتهم بالفيروس نهائيًا! لكن النتيجة السلبية لرُعاة الخفافيش قد جعلت (ليندا سيلفى) تستنتج أن الفيروس قد احتاج لكي يصيب الإنسان إلى عامل مُضخم له وهو (الخيل)!
فالإصابة بفيروس هيندرا تنتقل إلى الإنسان عن طريق الخيول، وليس عن طريق الخفافيش!
فالخفافيش تقوم بإصابة الخيول، والخيول بدورها تقوم بإصابة الإنسان، وبالتالي لا تنتقل العدوى مباشرة من الخفافيش إلى الإنسان.
تم الآن تفكيك جزء من الأحجيّة، لكن يبقى ثلاثة أسئلة يجب الإجابة عليها:
- لماذا ظهر فيروس هيندرا في هذا المكان دون غيره؟!
- لماذا ظهر الفيروس في هذا التوقيت بالتحديد؟!
- لماذا العائل المضخم هو الخيل وليس الكنغر أو الفئران أو أي كائن آخر من الكائنات التي تعيش في نفس المنطقة؟!
بدأ البحث في الزمان والمكان، والعلاقة بين العناصر الأربعة:
- فيروس هيندرا.
- العائل الخازن - أو المستضيف - للفيروس وهو الخفاش.
- العائل المُضخم للفيروس وهي الخيول.
- الإنسان المُعرَّض للعدوى.
وبعد البحث والتقصي تبين الآتي:
أن هناك ثلاثة عناصر قد تعايشت في أستراليا في سلام منذ العصور القديمة، وتلك العناصر هي: ( فيروس هندرا ، خفافيش الثعالب الطائرة ، البشر ).
أما الخيول فلم يكن لها وجود في أستراليا حتى عام 1788م، حيث جاءت الخيول واستوطنت أستراليا في يناير عام 1788م، وذلك حينما أبحرت سفينة بريطانية بقيادة ( آرثر فليب ) ومجموعته ليكونوا أول المستوطنين الأوروبيين في أستراليا، وكان معهم ( 9 خيول ).
وبذلك تم تفكيك الأحجية بالكامل، كان كل شيء في أمان وسلام حتى جاءت الخيول واستوطنت أستراليا، فكانت العائل المضخم لفيروس هيندرا، فكان ظهور الفيروس نتيجة خلل في النظم الأيكولوجية الطبيعية، بدخول الخيول إذا تلك المنطقة!
فكم من حالات الوفاة بين الخيول والبشر على مدار الفترة بين عام 1788 وعام 1994 تم تصنيفها على أنها لدغة ثعبان، قبل أن يلاحظ الإنسان وجود فيروس هيندرا القاتل؟!
العائل المضخم: هو كائن حي لديه عتبة منخفضة، ويتكاثر فيه أحد الفيروسات بطريقة ضخمة تكفي للتغلب على عتبة أكبر وهو الإنسان.
الخفاش في حالة فيروس هيندرا لا يستطيع أن ينتج كمية ضخمة من الفيروس تتغلب على عتبة الإنسان، بينما الخيول تستطيع فعل ذلك! فهذا الخلل في النظُم الإيكولوجية هو الذي سبب ظهور فيروس هيندرا في أستراليا!
وبما أن أنشطة البشر التي تُمزق النُظم الإيكولوجية على هذا الكوكب لن تتوقف، فكذلك الفيروسات لن تنفك عن مهاجمة الإنسان بين الحين والآخر، فجائحة فيروس كورونا التي نعيشها الآن ليست أول ولا آخر الفيروسات!
ونتيجة لذلك يجب علينا نحن البشر أن نستقرأ الواقع، ونستنتج من أي مكان سينبثق الفيروس القادم، حتى نكون أكثر جاهزية لمواجهتهِ!
والسؤال: هل من واجبنا أن نسأل ما الذي فعلته الصين في مدينة (ووهان) -المكان الذي انبثق منه فيروس كورونا- قد سبب خللًا في النُظم الإيكولوجية لتلك المنطقة، فوَجدَ فيروس كورونا كوفيد 19 طريقه إلى (عائل مُضخم) استطاع أن يُنتج كمية كافية من الفيروس استطاع من خلالها أن يتغلب على عتبة البشر؟!