إن ما يجري في الوطن العربي الإسلامي، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وميلاد النظام الدولي الجديد، وانعكاس ذلك على الوطن العربي الإسلامي، يحتاج لفهم التحديات الجديدة التي فرضها هذا التحول، خصوصا التحدي الصهيوني، ولفهم هذا الانعكاس وتداعياته السلبية على الوطن العربي الإسلامي.
يحتاج هذا الفهم أن نضع الإقليم في إطاره التاريخي والحضاري، لأن العقبة والتحدي الكبير الذي أصبح يقف أمام الامبريالية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الصهيونية، لم يعد التحدي، تحديا أيديولوجيا كما كان في زمن الحرب الباردة، بل أصبح التحدي الذي يقف في وجه ثعبان الإمبريالية هو القيم والحضارة والدين كمصدر للقيم وقوتها فهذا العنصر هو الذي يحول دون أن يبتلع الثعبان الوطن العربي الإسلامي.
ولهذا نجد أن الأعداء الأولون للإمبريالية الجديدة في المنطقة هم الإسلاميون وغيرهم من القوميين الأحرار الذين يقفون ويدافعون عن القيم الحضارية للأمة العربية الإسلامية. لهذا فالمقاربة المنهجية التي أعتمدها في تحليل وكتابة هذا المقال هي هذه المقاربة القيمية الحضارية.
الوطن العربي الإسلامي منذ نهاية الاتحاد السوفياتي، وميلاد النظام الدولي الجديد، يتعرض لعملية جراحية كبيرة وعميقة، الهدف منها هو استئصال وعزل القيم والأخلاق والدين والشريعة والأدب الإسلامي عن هذا الجسد، لكون أن هذا العنصر الحضاري والثقافي هو العائق الكبير الذي يمنع أن يبتلع الوطن العربي الإسلامي من الامبريالية الجديدة ومن الصهيونية، فإذا تم لا قدر الله عزل الجسد عن القيم والاخلاق والدين فإنه سيتحول الوطن العربي الإسلامي إلى لقمة سائغة وسهلة الابتلاع والهضم ومن تم تحقيق الحلم الصهيوني وهو إسرائيل الكبرى.
وهذا ما فطن له وأدركه الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله وخصص له كتابا:" الحرب الحضارية الأولى". يقول الدكتور في هذا الصدد: " في سنة 1981م، قلت إن نزعات المستقبل، إذا لم نضع في حسابنا التطورات ستكون أساسا نزاعات ثقافية وحضارية، هذه أطروحتي منذ أن تركت اليونسكو 1976م،حين رأيت أنه من العجرفة والهيمنة الحضارية الغربية تأكدت أنه ينعدم الأمل الحقيقي في التعامل مع هذا الغرب نظرا لضعف، لأن القوي دائما يستغل الضعيف، إذ لا يمكن أن يكون هناك حوارا هذا الحوار الثقافي والحضاري إلا إذا كنت معتمدا على نفسك إن القضية هي مشكلة الإتصال الحضاري وهي مشكلة كبرى فيما يخص المستقبل والعلاقات الدولية، ولم أكن في ذلك الوقت متشائما. الفرق هو أن هنتغتون انطلق من الخوف، وبالخصوص الخوف من الحضارة الشرقية وهي الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشية، الديانات غير اليهودية والمسيحية.
هذا هو الصراع وليس هناك صراع آخر في الحياة، فالغرب يتكلم عن قيم يهودية مسيحية من جهة والقيم الآتية من مناطق غير أوروبية وهي قيم الإسلام والكونفوشية وكل ما هو غير مرتبط بالحضارة اليهودية المسيحية.
إن حرب الخليج 1991 كانت إعلانا إن الحرب الحضارية انطلقت لأن الولايات المتحدة الأمريكية في إطار هذا الصراع كانت تواجه بالقوة الدولة التي لها كانت لها امكانيات حضارية، أي العراق، ونحن نعيش في مرحلة أخرى. وهو ما تواجهه إيران، لأنه لا يسمح لأي دولة إسلامية أن تكون فيها نسبة الأمية أقل من عشرة بالمائة ومستوى مرتفع من البحث العلمي وإمكانيات تكنولوجية ذاتية تملكها وتتصرف فيها ولا تستوردها بالبترودولار مثلما تفعل الدول الأخرى بحيث لا يسمح بأن تكون لها تجربة في فهم حضارتها وفي أسلوب معيشتها، لهذه النقطة التي تحوم حولها مشاكل كهذه." [1]
إمبريالية ما بعد الاتحاد السوفياتي، هدفها كوسيلة لابتلاع الجسد العربي الإسلامي، وفرض هيمنتها على المنطقة وبقاء الإقليم مجالا حيويا لهذه الامبريالية وللصهيونية، هو إفراغ هذا الجسد من روحه وإفراغه من القيم والأخلاق، ومن الدين الذي هو المصدر الأساسي بالنسبة إلينا كمسلمين مصدر القيم والأخلاق والمبادئ والقوانين.
لهذا لا غرابة أن تضع هذه الإمبريالية الجديدة وربيبتها الصهيونية الدين والقيم من أولوياتها العدائية في المنطقة. وهذا العداء للقيم والدين هو الذي أدى الى صعود الحركات الإسلامية في المنطقة نتيجة الهجوم الممنهج الذي يستهدف ابتلاع الوطن العربي الإسلامي بعد عزله عن قيمه وحضارته، لهذا فصعود الحركات الإسلامية خاصة بعدما ما يسمى بالربيع العربي الإسلامي، هو امتداد لحقيقة هذا الصراع والمعركة التي أرادت أن تفصل الجسد العربي الإسلامي عن روحه وتسليمه الى طاحونة السوق طحنه وتحويله الى طعام سلس سهل الهضم والابتلاع.
وللأسف، إن الإمبريالية الجديدة، إمبريالية ما بعد الاتحاد السوفياتي، نجحت هذه المرة إلى حد كبير في اختراق الجسد العربي الإسلامي واحتوائه للأقلية أو الاوليغارشية المالية العربية خاصة في منطقة الخليج، وكذلك اختراق لكثير من المثقفين العلمانيين والليبراليين والقوميين واليساريين العرب خصوصا الحاقدين على الإسلام والقيم الإسلامية، بحيث أصبح هؤلاء جنود وأدوات في خدمة الإمبريالية الجديدة وربيبتها الصهيونية.
وظهر هذا بوضوح، اليوم بعد الربيع العربي الإسلامي، حيث اختزلت هذه المعركة بين الحركات الإسلامية المعتدلة والممثلة المعترف بها، وبين الإمبريالية الجديدة وربيبتها الصهيونية وهؤلاء المطبعين من جهة.
فهناك معركة بين هؤلاء كما نشاهد اليوم، والهدف هو إفراغ الوطن العربي الإسلامي من القيم والأخلاق لكي يكون مجرد قطعة لحم بدون عظم سهل الابتلاع وبالتالي فتح الطريق أمام تحقيق الحلم الصهيوني وهو إسرائيل الكبرى.
لأن إمبريالية ما بعد الاتحاد السوفياتي، هي إمبريالية القرن التاسع عشر التي وقفت إلى جانب الصهيونية لإقامة الوطن القومي اليهودي بفلسطين، فسيناريو القرن التاسع عشر يتكرر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فكما تبنت واحتضنت إمبريالية القرن التاسع عشر الحركة الصهيونية فان امبريالية القرن واحد وعشرون تقف نفس الموقف أو هو أشد. وهي من هذا الموقف تريد اكمال مشروع إسرائيل الكبرى مستغلة الوضع العربي الإسلامي الذي فقد مناعته وفقد قوته، وبالطبع هذه المرة تحقيق الحلم عن طريق الاقتصاد وليس عن طريق القوة العسكرية كما وعد بلفور الأول، غير أن تقدم المشروع الصهيوني في المنطقة يتطلب إضعاف المنطقة سياسيا وعسكريا وتفتيت المنطقة أكثر لكسر المعنويات وبالتالي القبول بالأمر الواقع، وهذا ما حدث ويحدث منذ 1990م حيث دخل الوطن العربي الإسلامي في دوامة من التفتيت ومن الضعف والخصومة لم يسبق لها مثيل، الشيء الذي جعل الصهاينة يستغلون هذا الوضع والعمل على احتواء القوى الاقتصادية في المنطقة وكذلك الفكرية وتوظيفها صهيونيا وإمبرياليا.
وكما أشرت فهي نجحت في توسيع وتعبيد هذا الطريق نحو حلمها الأكبر. قلت إن امبريالية القرن التاسع عشر تعيد نفسها اليوم وكما وقفت في الأمس مع الصهيونية، فهي كذلك اليوم ومشروع الشرق الأوسط الجديد هو وعد بلفور جديد،والذي يتطلع اليوم ان يحقق حلم إسرائيل الكبرى عن طريق الاقتصاد أولا، وهذا ما فطن إليه مترجم كتاب شمعون بريس:"كتاب الشرق الأوسط الجديد " حيث حذر في مقدمة الكتاب المترجم باللغة العربية من الكلام المعسول لشمعون بيريس كلام مليء بالوعود الاقتصادية التي تصور الشرق الأوسط الجديد وكأنه جنة فوق الأرض، فهو حذر وقال على أنه يدس السم في العسل.
لهذا فهناك اليوم جبهة تجمع بالإضافة إلى الغرب المسيحي والصهيونية هناك المرعوبين والمرتجفين من الربيع العربي الإسلامي، التي تعمل مع هؤلاء، وبالتالي شن هجوم خبيث مضلل على القيم وثوابت الأمة، لكونها هي من تحول دون أن يتحول الوطن العربي الإسلامي إلى جبنة أو إلى قطعة لحم تسهل تناولها وابتلاعها، فهناك جهود جبارة تبذل الآن من أجل إضعاف القيم باضعاف الدين حتى يضعف الجسد ويصبح قطعة مادية صرفة تكون فريسة سهلة الافتراس.
جهود كبيرة لتطويع وتدجين وإضعاف القيم عن طريق مزيد من إغراق الوطن العربي الإسلامي في قيم السوق المادية الاستهلاكية، وعن طريق الإعلام الذي يسوق لقيم السوق الاستهلاكية، وعن طريق مجموعة من المرتزقة من الكتاب العلمانيين المطبعين، ثم عن طريق اعتقال وسجن كل العلماء والمفكرين والأدباء والصحافيين المنحازين إلى الهوية العربية الإسلامية وإلى القيم الحضارية للأمة.
وهذا ما نلمسه من خلال الجرأة على الواقع على المقدسات وعلى الثوابت والذي يراد من ذلك قياس وامتحان لمدى ضعف أو صمود القيم والثوابت في نفوس أفراد الأمة ،فالصهيونية لما بعد الاتحاد السوفياتي استفادت كثيرا من الوضع السياسي الجديد للوطن العربي الإسلامي، بحيث أن ما جرى ويجري إلى اليوم خلق ارباك وشكوك قوية واهتزاز نفسية الشعوب العربية الإسلامية في انتمائها العربي والإسلامي، ولذلك لصالح الصهيونية فالخصومات والعداوات العربية العربية، والحالة الممزقة للوطن العربي الإسلامي خاصة بعد الربيع العربي الإسلامي جعل أطماع الصهيونية نحو تحقيق حلم إسرائيل الكبرى أكثر قوة وواقعية خصوصا بعد اختراق دول الخليج الغنية وجعلها في صفها، وتشابك المصالح الاقتصادية بين الطرفين، والعمل سويا على تنزيل مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيوني.
فهؤلاء مستعدون أن يسلموا الوطن العربي الإسلامي للصهاينة بدلا من أن يسلموه لما يسمونه الإسلام السياسي، والإخوان المسلمين، فبقدرما يتقدم التطبيع مع الصهاينة يتراجع أو يستحيل التطبيع مع الإسلام السياسي.وهذا ما نشاهده في مصر في اليمن في سوريا في ليبيا في الجزائر وفي تونس كلما وصل أحد رموز هذا التيار إلى مستوى من مستويات الدولة إلا وقامت القيامة ضده في الوقت الذي لم نعد نسمع عن أي إعتراض أو الوقوف في وجه إسرائيل عندما يعتدى على الحق الفليسطيني أو العربي الإسلامي أو على ثابت من ثوابت الأمة العربية الإسلامية.
بل بالعكس رأينا الهرولة والانبطاح في صفقة القرن، ورأينا بشكل سافر ومفضوح التنكر لفلسطين والحقوق الفلسطينية، وكل هذا مؤشر على أن الصهيونية والإمبريالية الجديدة في طريقها نحو تحقيق حلم إسرائيل الكبرى. فالنظام العربي الرسمي في الشرق الإسلامي أصبح في يد الصهاينة وحلفهم بشكل واضح والدعوة إلى التطبيع على أعلى المستويات. وبالتالي فالمقاومة أصبحت شيء من الماضي، والاستسلام هو المخرج. فالعدو اليوم هو الإسلام السياسي لأنه يدافع عن ثوابت الأمة، ويدافع عن القيم وعن مقوماتنا الحضارية ويقف في وجه السوق التي تسعى إلى تشييء وتسليع الوطن العربي الإسلامي بعد إفراغه من قيمه وإضعاف دينه في النفوس.