كما هو معلوم، فمنذ الإعلان عن ميلاد النظام الدولي الجديد، عقب سقوط الإتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، الأحداث اللاحقة وضعت الشرق الأوسط من جديد على صفيح سياسي ايديولوجي حضاري ساخن، وكأن المنطقة مكتوب لها أن تعيش على إيقاع هذا النوع من الصراعات التي ارتبطت بها منذ القديم. فهي لم تكد تتنفس الصعداء من توترات الحرب الباردة حتى داهمتها وبَاغتتها ظروف حرب جديدة، لتضعها مجددا على فوهة بركان سياسي حضاري نشيط، وهي الآن تحترق جراء هذا الوضع الجديد.
الصراع في المنطقة اليوم يمكن أن نقول عنه صراع قديم جديد لكونه يذكرنا في جميع حيثياته بالوضع الذي كان عليه الشرق الأوسط في بداية القرن العشرين، عندما كان تحت الانتداب البريطاني، الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي حولتها الثورة الصناعية الأولى إلى امبراطورية سيدة البحار والعالم، وكما نجحت الصهيونية أنذاك في استغلال هذه السيادة والهيمنة البريطانية على العالم، والضغط عليها لانتزاع وطن صهيوني بالقوة في فلسطين، فإن السيناريو يتكرر اليوم من جديد.
فَهزيمة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي جعل العالم كله تحت وصاية الولايات المتحدة الأمريكية التي حلت محل بريطانيا في النظام الدولي القديم، فالولايات المتحدة الأمريكية اليوم وبفضل الثورة الصناعية الجديدة أصبحت سيدة العالم بأضعاف ما كانت عليه بريطانيا من قبل.
فالثورة الصناعية الرابعة والخامسة، أو ما بعد الثورة الصناعية، حولت العالم إلى قرية صغيرة جدا، ووضعت مفاتيح هذه القرية في يد الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك ناصية هذه الثورة، والتي جعلتها تتربع على عرش السيادة العالمية دون منازع.
حقيقة أخرى مرتبطة بهذا الوضع الجديد القديم وهي عودة الاستعمار والرأسمالية الليبرالية المتوحشة، رأسمالية القرن التاسع عشر، لكن بقوة مضاعفة حيث استفادت أو تستفيد من تكنولوجية الثورة الصناعية الجديدة التي حولت العالم إلى مجرد كماشة صغيرة في يد الإمبريالية الجديدة، فسقوط الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي فتح الطريق أمام عودة الاستعمار وعودة الرأسمالية المتوحشة، وعودة الداروينية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعلاقات الدولية، عادت سياسة البقاء للأقوى والأصلح.
كما بالأمس الصهيونية العالمية ستركب على هذا المعطى الجديد، الذي منح السيادة المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية على العالم، لتطالب بمواصلة وإتمام عهد بلفور وسايكس بيكو، وهذا ما يجري اليوم في المنطقة.
فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، والانقضاض على العراق، دخلت المنطقة في تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، والوفاء لبَلفور وسايكس بيكو؛ عاد إنتاج إستعمار صهيوني إمبريالي أمريكي للمنطقة. واستعمار ما بعد الاتحاد السوفياتي، ليس هو استعمار ما قبل الاتحاد السوفياتي، فاسْتعمار اليوم أخطر من حيث الوسيلة من استعمار الأمس، فالآلِيات والأدوات التي تتوفر اليوم أخطر وأقوى عمليا من آليات وأدوات الأمس. وهذا الوضع يشكل خطر حقيقي على الشرق الأوسط العربي الإسلامي، بتجريده وفصله عن هويته الثقافية والحضارية، خصوصا مع الهزيمة النفسية، والفشل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للنظام العربي الرسمي لما بعد الاتحاد السوفياتي، فالنظام العربي الرسمي يعيش اليوم أسوأ أيامه.
هذه الهزيمة النفسية جعلت النظام العربي يهرول طواعية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ الذي نجح في كيده وخدعته، وهذا ليس جديدا على اليهود، نجح في إرهاب وتخويف النظام العربي الرسمي خاصة الخليجي من إيران والإسلام السياسي، ثم تركيا مؤخرا، مما جعل هذا النظام يرى إسرائيل أقرب إليه من إيران والإسلام السياسي وتركيا، ليهرْول نحو التطبيع والاستنجاد بالصهيونية.
الشرق الأوسط العربي الإسلامي كما خطط له شمعون بريس في كتابه الشرق الأوسط الجديد، هذا الإقليم أصبح اليوم مهددا من الصهيونية، لكون مفاتيح الشرق الأوسط الجديد لم تعد بيد العرب أصحاب الحقوق التاريخية والحضارية والثقافية.
هناك واقع جديد يتشكل في المنطقة، واقع يتجاوز البعد القومي والديني، وعلى العرب أن يتقبلوا هذه الفكرة وهذا الاعتقاد الذي أصبح واقعا. وبالتالي العقل العربي يجب أن يتغير ليُساير العصر وإلا فلا مكان له في المستقبل. بمعنى أن الشرق الأوسط العربي الاسلامي يجب أن يخلع هذا اللباس القيمي الثقافي الحضاري العربي الإسلامي، ويلبس لباس الليبرالية الاقتصادية التي أصبحت الدين الجديد للعالم، فكما رضخ الاتحاد السوفياتي لاعتناق هذا الدين ورضخت أوروبا الشرقية والصين والهند والأنظمة العسكرية في أمريكا الجنوبية، فإن الشرق الأوسط العربي الإسلامي عليه أن يرضخ ويستسلم ويعتنق الديانة الجديدة الصهيو مسيحية.
وهذا ما نتجه إليه؛ فالإِبادة التي تعرض لها الهنود الحمر، ويتعرض لها الفلسطينيون اليوم، تهدد الشرق الأوسط العربي الإسلامي، خصوصا أن النظام العربي الإسلامي انتقل من الهزيمة النفسية إلى المرحلة التي يقدم فيها المفاتيح طواعية للصهاينة والأمريكان ، كما فعلت الأندلس أيام ملوك الطوائف.
النظام العربي الرسمي، أصبح مرعوب من شعوبه، مرعوب من إيران ومن تركيا، وهو يفضل الهروب إلى الصهاينة والأمريكان من أن يسلم المفاتيح لشعوبه أو إيران أو تركيا. أمام هذه الهزيمة وهذا الوضع الذي أصبحت فيه الهوية الثقافية والحضارية للشرق الأوسط العربي الإسلامي مهددة بالصهيونية والذوبان في بحور التطبيع معها، وبالتالي تسليم مفاتيح الشرق الأوسط العربي الإسلامي للصهاينة.
أمام هذه الهزيمة وهذا العار تقف الصحوة الإسلامية في مواجهة الصهْينة والأمركة للمنطقة، وهذا الوقوف هو الذي حول الشرق الأوسط العربي الإسلامي ليس فقط إلى سجن كبير أو معتقل كبير، وإنما إلى محرقة تشبه محرقة النمرود لإبراهيم عليه السلام، ومحْرقة أصحاب الأخدود.
فالشرق الأوسط الجديد يعمل على تعبيد الطريق أمام الصهيونية وهذا يؤدي إلى زعزعة القيم الحضارية والثقافية التي تربطه بعروبته وإسلامه، وما نشاهده اليوم ونقرأه هو حرب شرسة حاقدة على كل ما يربط الشرق الأوسط بعروبته وإسلامه، وقد عبر الدكتور المهدي المنجرة على هذا بأنه "حرب حضارية على المنطقة تريد أن تسلخ وتفصل الشرق الأوسط عن هويته الثقافية الحضارية العربية الإسلامية، لتسليمه للصهيونية وتحقيق الحلم الصهيوني وهو إسرائيل الكبرى". وفي المقابل هناك قوة مضادة بإمكانيات أقل بكثير من إمكانيات القوة المناوئة، تعمل على صد ومقاومة صهينة الشرق الأوسط، تتمثل كما أشرت في الصحوة الإسلامية وأبناء الإسلام السياسي المعتدل الإصلاحي التجديدي. وهي الآن تخوض دفاعا عن الهوية الثقافية الحضارية العربية الإسلامية من خلال حرب شرسة مع القوى الاستعمارية الجديدة، ومع الدولة العميقة الوظيفية التي أصبحت تعمل لصالح الاستعمار الجديد المتمثل في الصهيونية.
هذه الحرب تتمثل في الاعتقال، النفي، التعذيب، الوعد والوعيد لكل أبناء الصحوة الإسلامية خاصة العناصر النشيطة في الجبهة المضادة للصهيونية، فهناك معتقلات وسجون جديدة تبنى، ورجال أمن ودرك وعسكر تدرب وتهيئ لمواجهة أبناء الصحوة الإسلامية، فالسجون في مصر ممتلئة، وكذلك في السعودية والإمارات والبحرين، وكل دول المشرق العربي.
الشرق الأوسط أصبح جحيم مشتعل لأبناء الصحوة الإسلامية التي تقف في وجه الصهيونية، وتمنع المسخ للهوية العربية الاسلامية.
الإمارات، السعودية، البحرين، مصر، الأردن، الضفة الغربية.. كلها تجري بسرعة البرق اليوم نحو التطبيع. وهذا معناه أن المقررات المدرسية والبرامج الإعلامية والمسلسلات التليفزيونية السينمائية، وكل ما يربط الشرق الأوسط بعروبته وإسلامه، سيتم محوها وشطبها، مقابل برامج جديدة ترحب وتمْدح وتمجد التطبيع والترحيب بإِخواننا وأبناء عمومتنا الصهاينة، فالتاريخ الحديث والمعاصر والقديم، وكل ما له علاقة بالكيد والخبث اليهودي الصهيوني قديما وحديثا يتم تجاهله، فالاعتداء اليهودي الصهيوني على فلسطين وأبنائها والتهجير والقتل والاستئصال، وضم مزيد من الأراضي، كل هذا تم نسيانه أو تجاهله.
الماكنة الإعلامية الجبارة الصهيونية والدولة العميقة الوظيفية تعمل بدون توقف نحو الصَهينة عن طريق محاربة الإسلام السياسي المعتدل والقيم الأصيلة العربية الإسلامية، لفتح الطريق أمام الفسق والفجور والدعارة والرقص وهز البطون وتحريك للمؤخرة بسم المهرجانات والترفيه والسياحة وغيرها من المسميات، فالشرق الأوسط أصبح مفتوح لهذا النوع من الرذيلة والانحطاط الأخلاقي، وفي المقابل إبطال مفعول المؤسسات التي كانت ضد الرذيلة والانحطاط الأخلاقي بسم الإصلاح الديني. وفي المقابل هناك استقطاب واحتواء وتبني لكل النجوم التي تسخر من الإسلام السياسي المعتدل.
إذا فنحن أبناء الصحوة الإسلامية المعتدلة، بل أبناء الشعوب العربية الإسلامية أمام حرب إبادة لا تقل عن إبادة الهنود الحمر، ولا عن إبادة الفلسطينيين، الشرق الأوسط العربي الإسلامي أصبح حاله اليوم حال فلسطين كلها وحال الأندلس، ما كانت فلسطين تعاني منه منذ 1948 بل من قبل هذا التاريخ سيعمم على الشرق الأوسط العربي الإسلامي، المفتوح كله اليوم على الصهيونية، والمهدد بالابتلاع الصهيوني والطريق بات واضحا وسهلا بعد الاتفاق الإماراتي الصهيوني والذي ينتظر أن تلحق به دول أخرى منهزمة نفسانيا ومرعوبة من الإسلام السياسي المعتدل، ومن إيران وتركيا.
وما أشار إليه وتنبأ له الدكتور يوسف القرضاوي أطال الله في عمره وبارك له في علمه وصحته، عندما قال في احدى خطبه: "أخاف أن نظل نقول إسرائيل المزعومة، حتى نصبح نحن المزعومين".
"نحن اليوم قاب قوسين أو أدنى من أن نصبح مزعومين. مفاتيح الشرق الأوسط العربي الإسلامي لم تعد بيد العرب، بل أصبحت بيد الصهاينة والأمريكان، والوقت كله لصالح الصهيونية والإمبريالية الأمريكية".