يقول الدكتور المهدي المنجرة: "يجب أن نفهم أن الحروب المقبلة ستكون قبل كل شيء حروبا حضارية."
قبل أن أواصل الحديث في تحليل دلالات هذا الاستشهاد الاستراتيجي، أود أن أشير إلى حقيقة مهمة لها ارتباط وتيق بهذا الموضوع الذي نحن بصدد تناوله في هذا المقال، هذه الحقيقة هي:
إذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد حولت بريطانيا إلى أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ الحديث، ومنحتها لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وسيدة البحار، وليس هذا فحسب بل مكنتها من ثروة اقتصادية ضخمة من خلال مستعمراتها التي تحولت إلى سوق استهلاكية للبضائع الانجليزية، ومصدر للمواد الخام لثورتها الصناعية، هذه الهيمنة الاقتصادية توازيها فوقيا الهيمنة الثقافية، فإذا كان هذا بالأمس مع الثورة الصناعية الأولى، فإن الثورة الصناعية الثالثة والرابعة والخامسة أو ما يسميه البعض بما بعد الثورة الصناعية، مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تكرار السيناريو ولكن هذه المرة بقوة مضاعفة بكثير عن قوة الثورة الصناعية الأولى، فالعالم تحول بفعل قوة هذه الثورة إلى مجرد قرية صغيرة تعود ملكيتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تمسك بتلابيب هذه الثورة لتكون سيدة هذا العالم، عالم ما بعد الإتحاد السوفياتي.
الثورة الصناعية الأخيرة حولت الكرة الأرضية إلى مجرد كرة صغيرة تعود ملكيتها إلى أمريكا بدون منازع، فكما وظفت بريطانيا الثورة الصناعية الأولى في تحقيق أهدافها وطموحاتها الامبريالية التوسعية، وتأسيس المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتجعل من القرن الواحد والعشرين قرن أمريكا، موظفة تكنولوجية الثورة الصناعية الجديدة… وهذا ما يهدد العالم بالأَمركة والسعي لإلغاء التنوع والتعدد الثقافي واختزاله في النمط الأمريكي.
هذا يعود بي إلى كلام الدكتور المنجرة والذي أشار فيه إلى أن حروب المستقبل ستكون حضارية. هذا الاستنتاج الاستشرافي هو إفراز لقراءة وتحليل علمي دقيق للعلاقات الدولية ومصيرها في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، هذه القراءة التي جعلته يتنبأ بأن الحروب المستقبلية لن تكون حروباً ايديولوجية كما كانت خلال الحرب الباردة، حيث الصراع الأيديولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية.
فعالم اليوم أمام نوع جديد قديم من الحروب ذات طابع ثقافي حضاري قيمي، حرب حضارية. هذا التنبؤ والاستشراف من الدكتور المنجرة جاء عقب الإعتداء التاريخي على العراق سنة 1990 ليستنتج الدكتور بعدها أن هذا العدوان ليس كما يدعي أو يزعم الغرب وأمريكا على أنه تحرير الكويت، فالعُدوان يجب أن يوضع في سياقه العام التاريخي والحضاري. وهو نوع جديد من الحروب ستعرفها العلاقات الدولية في ظل النظام الأمريكي الجديد، وهي حرب على القيم وعلى الثقافات.
الإعتداء على العراق هو اعتداء على منظومة من القيم الحضارية والثقافية التي جاء بها الإسلام، فالعِراق هي عاصمة ومركز الخلافة الإسلامية، و كانت الحضارة الإسلامية أيام الخلافة العباسية في أوج الازدهار الثقافي والحضاري للأمة العربية الإسلامية، وبالتالي فالاعتداء على العراق هو اعتداء على هذه الحضارة.
فالولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبحكم نزعتها الامبريالية تحتاج إلى عدو يحل محل الاتحاد السوفياتي، هذا العدو هو الإسلام. يقول الدكتور حسن اوريد:" لقد كان للشيوعية مزية أنها كانت عدوا لأمريكا، أما الآن فما ترى أمريكا صانعة بغير عدو؟ هل تشن حربا ضد المخدرات؟ ضد الإرهاب؟ ضد الخلل البيئي وارتفاع درجة حرارة الأرض؟ ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل؟ لكن لم يستأثر مشكل من هذه المشاكل التي تنعتها الإدارة الأمريكية بالمشاكل العامة بالاهتمام كما حصل بالنسبة للإسلام.
باحثون مرموقون سارعوا انطلاقا من خلفيات معينة إلى تنصيب الإسلام عدوا محتملا على أنقاض الخطر الأحمر، ولم لا يقول لسان حال أولئك الذين سارعوا إلى ذلك الطرح، فَعلاقات العالم المسيحي والعالم الإسلامي تكشفها حركات من المد والجزر، وقد كانت هذه العلاقات مثلما قال المستشرق الفرنسي اليهودي الديانة ما كسيم رودنسون علاقة صراع ايديولوجي شبيه بالصراع الذي ساد بين النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي ولِظروف عديدة، فالنَموذجان على طرفي نقيض في كل شيء كما يقول رودنسون."2
بريطانيا بالأمس لم تكن امبريالية اقتصادية فقط، بل كانت كذلك امبريالية ثقافية، تسعى من خلال ثقافتها تدجين وتهجين ثقافة مستعمراتها من أجل الاحتواء، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في ظل العولمة، فهي تسعى إلى تنميط وأمركة العالم باسم العولمة.
الشرق الأوسط العربي الإسلامي موجود في قلب هذا الاحتواء الأمريكي للثقافات العالمية، فمفهوم الحرب على الإرهاب، وحرب السلفية الجهادية والإسلام السياسي والحرب على الإخوان، كل هذا غطاء وقناع ايديولوجي تحمله الإمبريالية الأمريكية في حربها القذرة الوسخة على القيم العربية الإسلامية التي تُستمد من المرجعية الإسلامية.
لكن السؤال هنا ونحن نتحدث عن الشرق الأوسط، أين موقع الصهيونية من هذه المعركة؟ باعتبار أن الصهيونية هي شقيقة الإمبريالية، أقول بالأمس كانت حكاية وطن، وحكاية أرض، أما اليوم فهي حكاية الإنسان، وحكاية القيم والتاريخ والحضارة والثقافة.
لقد تعلمنا من الكتب والمقررات الدراسية أن الصهيونية استعمار واستيطان واحتلال، وأنها عنصرية علمانية مادية استغلالية ونازية، كل هذا تعلمناه عن الصهيونية، لكن هذه المقررات قليل ما تحدثنا عن الوجه الآخر للصهيونية، الوجه السرطاني الخبيث الذي يستهدف الجسد من الداخل لهدمه، هذا الوجه الذي تحدث عنه المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله بقوله:
"ولن نفهم المدارس الحديثة في أوروبا ما لم نفهم هذه الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن أصبعا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية، وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها مجتمع الإنسان في جميع الأديان. فاليَهودي كارل ماركس وراء الشيوعية التي تهدم قواعد الأخلاق والأديان، واليهودي دوركايم وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة، ويحاول أن يبطل أثرها في تطور الفضائل والآداب، واليهودي أو نصف اليهودي سارتر وراء الوجودية التي نشأت معززة لكرامة الفرد فجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بآفات القنوط والانحلال، وقل مثل ذلك في العلامة سيجموند فرويد اليهودي الذي هو من وراء علم نفس يرجع كل الميول والآداب الدينية والخلقية والفنية والصوفية والأسرية إلى الغريزة الجنسية، كي يبطل قداستها، ومن الخير أن تدرس المذاهب الفكرية، بل الأزياء الفكرية كلما شاع منها في أوروبا مذهب جديد، ولكن من الشر أن تدرس بعنَاوينها وظواهرها دون ما وراءها من عوامل المصادفة العارضة والتدبير المقصود."3
نحن أمام جريمة جديدة كبرى، هي الإبادة الحضارية للأمة باسم التطبيع، نحن أمام سرطان الصهيونية الذي يهدف إلى سلخ وفصل الشرق الأوسط عن هويته العربية الإسلامية، فالوَطن العربي الإسلامي لم يسبق له في تاريخه الحديث أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم، من ضعف وفقدان الثقة والشلل النفسي. وهو بهذا الضعف قابل لكل المساومات والتنازلات، وهذا أثار شهية الصهيونية للضغط على النظام العربي الرسمي لقطف ثمار هذا الضعف وأبرزها التطبيع الذي يرمي إلى جعل المواطن العربي المسلم يتنازل عن كل مقدساته.
وليس هذا فحسب بل تطهير وتنقية الكتب المدرسية من كل ما يسيء الى اليهود والى الآخر،هذا التطهير الثقافي والحضاري يمتد إلى المصحف الشريف، والأحاديث النبوية عن اليهود والنصارى، وهذا ما يفسره اليوم هذا الهجوم الشرس الخبيث من النظام العربي الرسمي المهزوم، على المؤسسات الدينية الحضارية التي تحافظ على القيم الثقافة الإسلامية، فهناك هجوم باسم الإصلاح الديني على المقررات الدراسية، وعلى المؤسسات الدينية، وعلى المساجد وخطب الجمعة وعلى العلماء أصحاب الفكر الإسلامي الحر المعتدل.
هناك إذاً عملية تجفيف لمَنابع الثقافة والقيم العربية الإسلامية، هناك إرادة حقيقية للتخلص من هذه الشخصية الحضارية الثقافية باسم التطبيع لتحل محلها شخصية هجينة مائعة يدور فكرها مثل البهيمة حول إشباع شهوتي البطن والفرج، شخصية تحول الشرق الأوسط إلى أكبر إقليم للرذيلة والفاحشة والفسق والعهر والفجور، تحويل أقدس أرض على الكرة الأرضية إلى أخبث ارض، بفتحه باسم الاستثمار أمام ثقافة العهر والرذيلة، ونشر الفاحشة بشكل واسع في المنطقة، خاصة بعد أن نجح التطبيع في اختراق واحتواء أحد المكونات الأساسية السياسية والاقتصادية للمنطقة وهي السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن، فاسْتسلام هذه الدول والقبول بالوضع التهجيني يفتح الباب على مصراعيه أمام توغل التطبيع داخل الوطن العربي الإسلامي، وبالتالي مسح للذاكرة العربية الإسلامية من كل ما فعله الصهاينة بالأمة من سوء مادي ومعنوي.
يقول الدكتور منير شفيق:" ولكن ثمة جبهة أخرى يحتدم الصراع القادم حولها هي جبهة الأفكار والقيم والثقافة والحضارة. فأمْريكا تريد أن تفرض أفكارها وقيمها وثقافتها وحضارتها على العالم عموما، وإن كان سعيها في هذا بالنسبة إلى البلاد الإسلامية سيكون أشد تكثيفا وتركيزا لأنها ترتطم هنا بأفكار الإسلام وقيمه وثقافته وحضارته.. وهذا ما يفرض عليها أن تبذل جهود كبيرة للمواجهة في ميادين العقيدة والثقافة والقيم والحضارة، وسيأخذ هذا التحدي ألوانا كثيرة بعضها شديد المكر.. وبعضها يخاطب الغرائز البهيمية مباشرة ليحرض ضد قيم الدين وأخلاقه، وبعضها يعتمد على أغراض السوق بنوع من الأعمال، واستبعاد الصوت الآخر وتجاهله، أو كبته، أو مقاطعته وفرض العزلة عليه.
وإذا كان الأمر كذلك فالمطلوب أن يرتفع المستوى الفقهي والفكري والثقافي والفني في مواجهة هذا الغزو الثقافي والحضاري. ولابد من أن تعلو مستويات المجابهة والدعوة إلى الإسلام والذود عنه، ولابد من أن يرتفع مستوى الدفاع عن الثوابت إلى مستويات أعلى بما يتناسب والتحديات الجديدة."4
إذا الشرق الأوسط العربي الإسلامي أمام إبادة حضارية تهدف إلى إسقاط كل ما هو عربي إسلامي في المنطقة، ليفتح الطريق أمام الصهاينة نحو ابتلاع المنطقة، وبالتالي المرور إلى تحقيق الحلم الصهيوني إسرائيل الكبرى، فالذي يمنع تحقيق هذا الحلم هو هذه القيم وهذه الثقافة التي تستمد قوتها ومرجعيتها من الإسلام متمثلة في الكتاب والسنة، ولهذا يأتي الكتاب والسنة في مقدمة مطالب التطبيع، لتصفيتها والإنتهاء منها، وهذا لن يحدث لأن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم. إلا أن الصهيونية تعمل على غسل ومسخ أدمغة الشباب العربي المسلم وعزله عن هذا التراث، عن طريق إعلام فاسد فاجر فاسق يمارس عملية غسل الدماغ ليل نهار لخلق شباب مائع تافه ساقط بلا تاريخ ولا ثقافة ولا قيم أصيلة، لا يعرف عدوه ولا تاريخه، ولا موقعه في الحياة، فقط يعيش لغرائزه مثل الحيوان. وللأسف أن النظام العربي الإسلامي الرسمي استسلم بل تواطأ وأصبح طرف قوي ضد إرادة الأمة، وثوابتها الحضارية والثقافية.
هناك حرب كبيرة لإفراغ الجسد العربي من مقوماته الثقافية والحضارية والأخلاقية، وتقديمه على طبق من ذهب للصهاينة والأمريكان باسم التطبيع، وباسم حوار الأديان والحضارات، وباسم الاستثمار والبزنيس، وهذا ما يفرض مقاومة وتصعيد جديد لمواجهة هذا السقوط، وهذه الإبادة الحضارية لكيان الأمة.