كما هو معلوم، فعقب سقوط الاتحاد السوفييتي، خرج علينا أنبياء، دعاة، ومبشرين يبشرون بالدين الجديد، دين النظام الدولي الجديد والعولمة، أنبياء، دجالون من طينة مسيلمة الكذاب، وقالوا أن الدين الطبيعي المدني الجديد الذي ارتضاه ديالكتيك والصيرورة التاريخية، هو الليبرالية الديمقراطية.
فبعد سقوط الاشتراكية يكون التاريخ قد قال كلمته وتأكيد على أن الليبرالية الديمقراطية هي المنهج والطريق الصحيح والأسلم للبشرية للعبور إلى بر الأمان، العبور إلى الفردوس الدنيوي الأعلى، حيث تنعم البشرية بالسلم الاجتماعي، وتعيش هناك سعيدة وكانها أسرة واحدة، ففي واحة الليبرالية الديمقراطية تنتفي العصبيات والايديولوجيات وكل التناقضات التي تفرق بين البشرية كأسرة واحدة. فبعد مسيرة طويلة نحو البحث عن الذات، رحلة ذات اليمين وذات الشمال أخيرا اهتدت البشرية إلى الطريق الصحيح. من هنا فالدعوة إلى الليبرالية الديمقراطية، تأتي في سياق الرحمة والشفقة بالبشرية التي تبحث عن الطريق الصحيح للحياة وللإنسان.
النظام الدولي الجديد يرمي بثقله من أجل إنقاذ البشرية وحملها على سفينة النجاة، سفينة الليبرالية الديمقراطية نحو بر الأمان.
لكن هؤلاء الدجالون، ربما تجاهلوا التاريخ، نسوا أن الدين الذي يسوقون له باسم الليبرالية الديمقراطية هو قناع إيديولوجي جديد، يخفي وراءه تلك الغابة التي تسكنها وحوش وثعابين الميكيافيلية والداروينية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك ثعابين المالتوسية، وقد ابتلي العالم بجرائم وأفعال هؤلاء المجرمين خلال القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين.
وقد حاولت الاشتراكية التصدي لهم وتعريتهم، لكنها بعد أزيد من أربعين سنة خسرت هذه المعركة، لأن الاشتراكية لها نفس المرجعية المادية ولها نفس الغاية المادية والتي تتناقض مع خصوصية الإنسان. لهذا فنحن لن ننخدع بهذا اللباس الجديد الذي يريد أن يغطي على الوجه القبيح لهذا الدين الجديد الذي يسوق له النظام الدولي الجديد.
نحن نفرق بين هذا القناع وبين من وراء هذا القناع، فهناك مسافة كبيرة القيم الإنسانية الأصيلة التي تمثلها وتحملها الليبرالية وبين ديانة السوق، حيث الأنانية والجشع والشر والغرور والاستغلال، والاستعلاء والتهميش والعنصرية.
نحن أمام امبريالية القرن التاسع عشر ولكن بلباس جديد، نحن العرب المسلمون أمام أحفاد سايكس بيكو، أمام الصليبية الصهيونية التي تقف وراء هذا الدين القديم الجديد، وكما استفادت امبريالية الأمس من الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية لتمدد عبر العالم، فإنها اليوم كذلك تسخر الثورة الصناعية الثالثة والرابعة لنفس الغرض والطموح وهي تحقيق حلمها الإمبراطوري بتحويل العالم إلى سوق واحدة يدين بدين الليبرالية الديمقراطية، كأداة ووسيلة للتحكم والسيطرة والاحتواء.
من هنا فأنا مع الدكتور فريد الانصاري رحمه عندما يقول:
"إن العولمة الجديدة في صيغتها الأمريكية الاستهلاكية، لا تسعى إلى إخضاع العالم الإسلامي عسكريا واقتصاديا فحسب، على طريقة استعمار القرن التاسع عشر والعشرين، ولكنها تسعى الى اخضاع الإرادات، او بعبارة ادق احتلال الانسان من حيث هو انتماء وولاء ووجدان! تماما كما وقع للشعوب الامريكية الاصلية، أو ما بقي منها. وما يقع للشعوب الآسيوية القصوى، مثل اليابان خاصة. هذا البلد الذي كان مضرب مثل لكثير من الدارسين العرب ..الذين ينظرون إلى سير الحضارة، وإلى حركة التاريخ بعين واحدة فقط فرأوا في التجربة اليابانية نموذجا للنهوض! لكنهم نسوا حقيقة أخرى خطيرة وهي أأن نهوض الشعب الياباني ماديا كان على حساب فقدان الإنسان الياباني! لقد حل الوجدان الأمريكي في إدارة المجتمع الياباني ولم يبق له من خصوصيته الثقافية والأنثروبولوجيا غير مظاهر محدودة من الفولكلور السياحي ليس إلا! ولا يغرنك منهم هذا الاحتجاج أو تلك المظاهرة ضد السياسة الأمريكية في العالم، فقد انخرط ذلك كله في نقد أمريكا بوجدان أمريكا! وانتهى وجود اليابان الإنسان." [1]
ونحن كمسلمين، وكصحوة إسلامية نضع ما يتعرض له العالم العربي والإسلامي من ظلم وعدوان منذ الإعلان عن ميلاد هذا النظام 1990 نعلن أن هذا الظلم وهذا العدوان والحقد والكراهية، وكأن هذا النظام جاء فقط لإبادة المسلمين، نحن كصحوة إسلامية نقول أننا ندافع عن الإنسان عبر العالم بغض النظر عن لونه ودينه ولغته.
المسلمون اليوم يدافعون ويؤدون الضريبة غالية نيابة عن الإنسان عبر العالم، لأن المكان الوحيد اليوم الذي يمثل القيم والأخلاق في العالم هو العالمين العربي والإسلامي، مكان الوحي، لهذا فهذه المنطقة ستبقى عصية على هؤلاء الامبرياليين الجدد، وإن تقدمهم في هذا المكان يشكل تهديدا للعالم كله باعتباره المكان الوحيد الذي لا زال يدافع عن الإنسان والإنسانية، بتمسك أبناءه بعقيدة وشريعة التوحيد.
الإسلام يحارب لأنه رجاء الانسانية ولأن هؤلاء يدركون أن مستقبل الانسان في الاسلام وليس في ديانة السوق التي تجعل من الديمقراطية الليبرالية قناعا لها. فازمة البشرية اليوم كما يقول العلامة الشيخ الحسن الندوي ليست أزمة الكم، وإنما هي أزمة الايمان والاخلاق، وفي هذا يقول:" تسمعون الناس يتحدثون عن الأزمات، والمشكلات...ولكني أعتقد: أن هناك أزمة واحدة لا ثانية لها، هي أزمة الإيمان، أزمة الأخلاق، سيحوا في الأرض وشاهدوا الأمم والشعوب والأقطار في أنحاء العالم كله تعاني أزمة واحدة هي أزمة الإيمان والأخلاق، هي كارثة الكوارث وهي مصيبة المصائب، وكل مشكلة تحدث الناس عنها، واشتكوا منها ترجع إلى هذه الأزمة والشيء الوحيد الذي فقد، وبفقده وقعنا في هذه المصيبة العالمية هو الإيمان، والشيء الوحيد الذي اعتل، وباعتلاله أصبحنا نواجه هذه المشكلات كلها في نطاق الأفراد والمجتمعات والحكومات والأوضاع العالمية هو الأخلاق..وكل ما نعاني من فساد الأوضاع مرده الى فساد هذه النفوس، وهيمنة هذه العقلية الخاضعة للمادة الخادمة للمصلحة، المتناثرة، الانانية." [2]
لهذا اليوم عندما تقف الصحوة الإسلامية في مواجهة هذا الوحش الإمبريالي، فهي لكونها تؤمن أن مستقبل الإنسان في الإسلام، لأن هذا الدين هو من سيرث الأرض كما وعد نبي الأمة وكما جاء في القرآن، فالصحوة الإسلامية تتعرض للمضايقات وللحرب الخبيثة التضليلية من طرف الصليبية والصهيونية، لكن كل ذلك ما هو إلا الطريق للعبور إلى الإسلام وإنقاذ البشرية من الخطر المحدق بها وهي على ظهر سفينة الليبرالية الديمقراطية التي تتجه نحو حتفها في هذا القرن.
يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله: "ينظر بعض الناس إلى حرب الإبادة التي تواجه المسلمين في كل الأرض، والى التكتل العالمي، الصليبي الصهيوني الوثني ضد الإسلام، والمؤامرات التي تحاك بتخطيط شيطاني على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فتسود الدنيا في عيونهم، ويقولون: هل للإسلام مستقبل في الأرض؟!
وعلى الرغم من ذلك كله نقول إن المستقبل للإسلام! نقولها مطمئنين..لا رجما بالغيب، ولا حالمين! بل واقعيين جد واقعيين.!
إن الغرب الصليبي الصهيوني، وحلفاءه الوثنيين هم الذين يمدون الصحوة الإسلامية بالقوة اللازمة لها لتعيش، وليصلب عودها ويشتد ولتكسب المناعة ضد ما يصب عليها من المبيدات. إن الحلم الذي يساور الأعداء بالإمكان القضاء على الإسلام وعلى الصحوة الإسلامية حلم تقوضه ذات الوسائل التي يتخذونها في حربهم للإسلام والمسلمين!
إن وسائلهم ذاتها هي التي تزيد المد الإسلامي وتوسع قاعدته وتصلب عوده وتجعله أقدر على الصراع الطويل..الذين يقولون إن الصحوة حادث عارض يمكن أن يذبل ويموت، أو مجرد رد فعل للاستعمار الغربي من ناحية واخفاق النظم المستوردة في إصلاح الأحوال من ناحية أخرى..هؤلاء وأولئك يغفلون عن أمور كثيرة فتصبح رؤيتهم مهتزة وناقصة، يغفلون عن أن الإسلام دين الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ويغفلون ثانيا أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه حين تكفل بحفظ كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.. [3]
فالغرب المادي اليوم يترنح وهو على وشك السقوط والإفلاس، وهو يدرك أن الحضارة الكونفوشيوسية اليابانية والصينية، وكذلك الحضارية الهندية البوذية لن تصمد في وجه الحضارة المادية الغربية فكما تم ابتلاع اليابان وتمثلها للقيم الغربية فالصين والهند وروسيا هم في طريق الابتلاع.
ويبقى الطرف الوحيد الذي سيقف في وجه الطوفان المادي الغربي هو الإسلام لأنه دين الحق مؤيد بالوحي وعليه قامت السماوات والأرض والحياة كلها فما يتعرض له المسلمون باسم الإرهاب لن يثني هؤلاء عن الدفاع عن دينهم. يقول د.محمد قطب رحمه الله في هذا السياق:
"الإسلام هو الدين، الذي أنشأ اكمل حضارة في التاريخ..الحضارة التي شملت الإنسان كله: روحه وجسده، عمله وعبادته، فكره ومشاعره، وعمله من أجل الدنيا وعمله من أجل الآخرة، في توازن واتساق، الدين الذي يمجد الله سبحانه وتعالى، ولكنه لا يحقر الانسان، بل يمنحه كرامته وايجابياته وفاعليته، لأن الله هو الذي كرمه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وإقامة في الأرض ليعمرها. الدين الذي يؤكد على القيم الثابتة ولكنه يفتح المجال في الوقت ذاته للنمو الدائم في كل مجالات الحياة..وفضلا عن ذلك فهو الدين الذي يحوي الشريعة الكاملة التي تتسع لكل ما يجد في حياة البشرية وتضبطها بالميزان الرباني." [4]
إن الغرب خسر المعركة الحضارية، ففاقد الشيء لا يعطيه، فهو لم يقم أصلا على القيم بل عاش طويلا وهو يتقنع ويخدع الشعوب بالقيم، واليوم لولا انخراط الجامعة العربية وبعض الأنظمة العربية الإسلامية في خندق واحد مع الامبريالية الصهيونية الصليبية ومدها بأموال ضخمة لسقطت كما سقط الاتحاد السوفياتي من قبل. فالنظام العربي الرسمي دفاعا عن مصالحه التي أصبحت مرتبطة بالغرب أكثر ما هي مرتبطة بالشعوب ومصالح الوطن، فهو يضخ أموال ودماء في شرايين الخزينة الغربية على حساب المسلمين.
والصحوة الإسلامية خاصة بعد الربيع العربي الإسلامي إلى اليوم موجودة في عين الاعصار الغربي الصليبي الصهيوني. وهي محاصرة بحرب اعلامية خبيثة تضليلية، لكن عالم ما بعد كورونا لن يكون عالم ما قبل كورونا، لأن القيم هي التي ستقول كلمتها، القيم هي التي ستحسم المعركة.
وأختم هنا بما قاله المفكر المصري العملاق عباس محمود العقاد رحمه وهو يعلق على الصراع الأيديولوجي في القرن العشرين يقول رحمه الله:
"إن القرن العشرين منذ مطلعه، يعرض العقيدة بعد العقيدة على الانسان والانسانية، ولا نعلم أنه عرض عليها حتى اليوم قديما معادا أو جديدا مبتدعا هو أوفق من عقيدة القرآن، وأوفق ما فيها أنها غنية عن الاختراع والإمتحان، وأنها على شرط العقيدة الدينية من بنية حية، شملت ملايين الخلق وثبتت معهم وحدها في كل معترك زبون يوم خذلتهم كل قوة يعتصم بها الناس. ونحن ندعي في هذه الصفحات ان المنصف بين النصائح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وإن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ ومذاهب وايديولوجيات، ولا ينتهي ما تعلمه أهل القرآن من القرآن." [5]