إن حال انكسار الأمة، والإحباط الذي اعترى كثيرًا من أبنائها، خصوصا إثر ضياع الخلافة أوائل القرن الفائت، والتي أنيطت بها مهمة الذود عن حياض الأمة، فقد نتج عن فقدانها الهزيمة الفكرية والنفسية مما تسبب في ضياع الهوية، وذهاب المرجعية؛ في هذه الظروف الصعبة ظهرت في الساحة حركات ترفع شعارات إسلامية، ونحن نحسن الظن في الكثير منها إلا أنه قد صاحب وجودها اجتهادات فردية وجماعية، ومنها ما كان مجانبا للصواب، ركبت مركب العنف لكن في وقت متأخر عن تاريخ تأسيسها بسبب دواع سنأتي على بيانها في ثنايا هذا البحث بمشيئة الله.
والواقع أن أول ظهور لمصطلح التطرف الديني في العصر الحديث كان في فلسطين، وكان قد ظهر في أدبيات الكيان الصهيوني بين يدي بحث الشباب المسلم عن جذوره وانتمائه! في الوقت ذاته الذي تعامی فيه ومعه العالم الغربي بجناحيه الأميركي والأوربي عن الأحزاب اليمينية المتطرفة، وفي مقدمتها (حزب شاس) مثلا، والتيار الأصولي في الغرب، ليس خافيًا على كل ذي نظر.
إن حركات العنف في إقليم الباسك في أسبانيا والعمليات الإرهابية التي كان يقوم بها الجيش الجمهوري الإيرلندي لم تصنف إرهابا عند المجتمع الدولي الذي يكيل بمكاییل عديدة! بينما جهاد الفلسطينيين في سبيل الذود عن دينهم وأرضهم هو الإرهاب بعينه. والذي يؤسف له أن هذا المصطلح بات يطلق في دول العالم الثالث على المعارضة التي اتخذت من التدين صبغة لها!
ونحن لا ننكر أنه وعبر فترة من التاريخ قد ظهر التطرف عند فرقاء محسوبين على المسلمين من أمثال الخوارج والباطنيين، وغلاة الصوفية؛ وتلاشى بعضها وما بقي منها فقد تعرض للنقد والتمحيص من خلال دراسات مطولة، وما يخضع للتلميع لها من جديد فهو على يد مؤسسات معادية للإسلام، ومنها على سبيل المثال: مؤسسة راند الأميركية؛ أما وجود تيار التكفير المعاصر فله أسبابه، وسنأتي على الحديث عنها بالمشيئة.
والهدف من تكريس أمثال هذه المصطلحات، إبقاء أثرها موجودة في العقل الباطن للشعوب المسلمة، وتحت مصطلح تجفيف الإرهاب يتدخل الغرب في المنظومة الإعلامية وكذا التعليمية. كما يهدف أيضا إلى صرف الأنظار عن ممارسات الأنظمة الشمولية الفاسدة وعن إرهاب إسرائيل في المنطقة، ولحرف البوصلة عن اتجاهها، وتأليب حكومات الاستبداد ضد التيارات الإسلامية المعتدلة؛ ليتبع ذلك التركيز من الغرب على خطورة التطرف الإسلامي.
وما من قضية ساخنة سلط عليها الضوء، وتعرضت لمساجلات فكرية مثل هذا الفكر الذي لبس ثوبا أيدولوجيا فضفاضًا، وأجد من اللزام علينا أن نتناوله من خلال المنظور الإسلامي الصافي من كل شائبة، والبعيد عن التسطيح الإعلامي، وعن القالب الأكاديمي الجاف، والذي يصعب فهمه على أهم فئة هي بحاجة إليه، وهي فئة الشباب.
من يقرأ التاريخ والتاريخ المعاصر، يعلم أن من أوراق القوة التي يمتلكها المسلمون هي طبيعة منهجهم الذي لا يدعو إلى العنف بل ينأى بأبنائه عنه، والإسلام في بعده الحضاري يتنافى مع هذه الثقافة النكراء.
والمعضلة أنّ التنظيمات التي انتهجت مسلك العنف، باتت تتكلم بلسان أكثر من مليار مسلم، وتسعى بدأب لنيل الشرعية، وفرض أطروحاتها والترويج لها على أنها هي الأصل، والأمر في منطق المتطرفين منتهٍ، وله أجوبته الحاسمة والجاهزة مسبقة.
ومن المفارقة غياب المفهوم السوي للغلو، بين الأطراف الغالية التي ترى في غلوها اعتدادا، وبين المفرطين الذين يرون لزوم دين الله غلوا. مع الإشارة إلى أن الجهة الشرعية التي تعطي التوصيف لحالة ما على أنها من التطرف، لیست قانونا وضعيا أو صاحب هوى أو مفكرًا علمانيًا أو مؤسسة استشراقية أو دائرة استخبارية أو طاغية مستبدا! بل هي نصوص الوحي فحسب، وفهمها الصحيح وتحقيق المناط فيها على يد علماء ثقاتٍ تلقتهم الأمة بالقبول.
وثمَّة صحفيِّة فرنسية رأت أنَّ خروج المسلمين للمسجد خمس مرَّاتٍ في اليوم والليلة أمر مبالغ به ولا مسوِّغ له! أي أنه خرج عن الاعتدال المطلوب والمنسجم مع الفطرة البشرية، وهذا لا يستقيم في أيِّ حالٍ من الأحوال!. والقانون الوضعي يبيح الربا وتعاطي الكحول! فهل الممتنع عنهما إنسان متطرِّف؟! ناهيك أن أمام المسلمين اليوم تحديات العصر ومعركة البقاء، وهم مذاهب شتى، ومنهجهم واحد. والمولى تعالت صفاته ينادي علينا: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153] والغلو لن يزيدنا إلا تشرذما وتفتيتا وشقا للصف! فإلى متى تعصف بنا عواصف التشدد، وهل على مر الأزمان سنظل ندفع ضرائب، الواحدة تلو الأخرى؟!
نناقش في هذه الدراسة الإشكالات التالية:
1- ما هي الأسباب والبواعث التي تؤدي إلى تبني العنف؟
2- ما هي الآثار السلبيّة لمسلك تبني العنف؟
3- المعالجة والحلول: ما هي الحلول التي ينبغي إتباعها لمواجهة مسالك العنف؟
ولا يفوت التأكيد، في العصر الحديث تعتبر ثقافة العنف ثقافة وافدة علينا وليست من صفوفنا الداخلية المحصّنة عبر قرون من الزمن خلت، بل هي من مصادر غريبة علينا، ومن يقرأ التاريخ والتاريخ المعاصر، يعلم أن من أوراق القوة التي يمتلكها المسلمون هي طبيعة منهجهم الذي لا يدعو إلى العنف بل ينأى بأبنائه عنه، والإسلام في بعده الحضاري يتنافى مع هذه الثقافة النكراء.