مسموح لك بـحرية التفكير كما تشاء وحرام عليك (حرية التعبير) إلا كما نشاء؟ هل هذا قول عاقل رشيد أم متعصب مستبد؟ هذا هو أحد مفردات القانون الميمي الثلاثي في العالم العربي (ما في ممنوع، ما يصير؟) ولكن متى طلب العقل إذناً بالتفكير لممارسة وظيفته؟ فالدماغ يفكر كما يخفق القلب وتتنفس الرئة؟ فهذه مغالطة أولى.
ثم هب أننا قطعنا الألسنة كما كان يفعل الفراعنة مع خدم الأهرام فيدفنون مع أسراره وكنوز فرعون، أو كما كان يفعل السلاطين مع خصي الذكور كي يضمنوا سلامة حركتهم بين الحريم؛ فعندما نأمر اللسان أن لا ينطق ونخصي الذكور فلا يتحرشوا بالحريم؛ هل يستجيب اللسان أو الخصي حقاً أم يحدث ما حصل في قصة (الحلاق والملك ومزامير الرعاة)؟ وما تكرر من مؤامرات الطواشي مع الحريم في القصور السلطانية؟ فهذه مغالطة ثانية.
يذكر المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه قصة الحضارة حكاية مثيرة عن أجواء الخوف من (التعبير) في أوروبا كالتي نعيشها حالياً عن القس (جان مسلييه 1678 ـ 1733 م) راعي أبرشية (أتربيني) في شمبانيا الذي كان في كل عام (يمنح الفقراء كل مايتبقى من راتبه بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير).
ولكنه عاش أزمة فكرية حادة بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة طوال حياته في حالة خوف وترقب أن يفتضح أمره ويقرأ الناس ما كتب من هرطق، وعندما مات ( بعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي قضى نحبه وهو في الخامسة والخمسين موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية) فدفنه أهل القرية بكل إجلال وتعظيم أنه التقي النقي الطاهر العلم تاركاً خلفه مذكراته في ثلاث نسخ من مخطوطة بعنوان (عهدي الجديد) وعندما بدأ الناس يطلعون على ما جاء في أوراقه أصيبوا بزلزال فوضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وبدأوا في صب اللعنات على رأس ذلك الشقي الخائن كيف استطاع أن يتكتم على آراءه الضلالية طيلة ثلاثة عقود.
كل التساؤلات الخطيرة والعقد التي تتطلب الحل واللاعقلانية لنظام الأفكار المسيطر في عصره قام (مسلييه) باستعراضه بأسلوب شيق وعرضها في صفحات مطولة فلم يترك مسألة عويصة أو وضعاً غير منطقي للكنيسة والفكر الديني والعرف السائد إلا وتعرض له في نقد لا يعرف الرحمة، ولكنها أسطر كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل في غيبة عن عيون الفضوليين والجواسيس والرقيب؛ فلم يُطلع عليها كائن قط حتى الموت، مع اعتذار شديد لأهل القرية أنه كتم آراءه عنهم كل تلك الفترة؛ فلم يكن يوماً معتقداً بما كان يمارسه من طقوس وصلوات وكنيسة وناقوس وتوسل إليهم في المخطوطة أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم، فقد تقلد عمله ليس طمعاً في المال بل امتثالاً لما أمره به أبويه؟
من الطرافة ذكر بعض نفثات هذا الرجل الذي أطلق العنان لـ (حرية التفكير) في الوقت الذي حبس كل (مجاري التعبير) عنده طوال حياته ؟ لنعرف مصير الأفكار المحبوسة عن (التعبير)
(لن أضحي بعقلي لأنه وحده يمكنني من التمييز بين الخير والشر وبين الحق والضلال... لن أتخلى عن الخبرة لأنها مرشد وهاد أفضل بكثير من الخيال أو من سلطان المرشدين. لن أرتاب في حواسي ولست أتجاهل أنها يمكن أحياناً أن تؤدي بي الى الخطأ ولكني من جهة أخرى أدرك أنها لن تضلني دائماً.. إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى إتخاذها).
لقد كانت كتابات (مسلييه) في مقاييس عصره أكثر الكتابات إيغالاً في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار لذا لم يتجرأ (فولتير) نفسه إلا على نشر أجزاء منها ورأى فيها شيئاً من التطرف حاول تعديله، ومن الواضح أن مسلييه كان قد وصل إلى اللاعودة مع الكنيسة والمسيحية كما فعل (برتراند راسل) الفيلسوف البريطاني لاحقاً عندما نشر كتابه المثير (لماذا أنا لست مسيحياً؟) وصفوة القول في رأي مسلييه أن المؤامرة كانت (بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس الى إذعان مريح للحكم المطلق؟) وعندما يتحدث عن الحروب الدينية في أوربا يقول:(زعزعت الخلافات الدينية أركان الامبراطوريات وأدت إلى الثورات وخربت أوربا بأسرها ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة حتى في أنهار من الدماء. إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو الى البر والاحسان والتآلف أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقساوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين) وعندما يصل الى عقيدة الكنيسة في الفداء طرح السؤال المربك: كيف يمكن أن يضحي الرب بابنه البريء يسوع الذي لم يرتكب إثماً؟
وعندما يتحدث عن ازدواجية رجال الدين في عصره يقول: (ويكفي لنتحرر من الوهم أن نفتح أعيننا على أخلاق أشد الناس تمسكاً بالدين ونفكر فيها ملياً وسنرى طغاة متعجرفين ورجال البلاط ومغتصبين لالاحصر لهم وحكاما لا ضمائر لهم ودجالين وزانين وفاسقين وإباحيين فجرة وعاهرات ولصوصا وأوغادا من كل صنف).
ليصل في نهاية أطروحته إلى أن (الناس أشقياء لمجرد أنهم جهلة وهم جهلة لأنّ كل شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة وهم أشرار لمجرد أن عقلهم لم يتطور بدرجة كافية) (لقد طال العهد بمعلمي الناس وهم يركزون أبصارهم على السماء فليرجعوا بأبصارهم ثانية إلى الأرض. لقد تعب الذهن البشري من اللاهوت المبهم والخرافات السخيفة والأسرار العويصة والطقوس الصبيانية فلينشغل هذا الذهن البشري بعد هذا الإرهاق بالأشياء الطبيعية والأهداف الواضحة والحقائق المعروفة والمعرفة النافعة).
وبعد أن ذكر جان مسلييه ما سلف يختم عهده الجديد بعبارة يتحدى فيها كل الذين يمقتونه ويصبون عليه اللعنات (دعهم يفكروا أو يحكموا ويقولوا ويفعلوا ما يريدون... لن أعبأ بهم كثيرا ... بل إني اليوم لم أعد أعبأ كثيرا بما يحدث في العالم؟)
يعلق ديورانت على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة على هذا النسق من العبارات الصاعقة (هل وجد ثمة عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش منسيا لا ذكر له في قرية قد ترتعد فيها كل النفوس رعبا وهلعا إلّا نفسه هو لمجرد الاطلاع على أفكاره الخفية ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته؟ ومن ثم اختمر في ذهن فرنسا وأسهم في التمهيد لسقوط النظام القديم ونشوة الابتهاج بالثورة الفرنسية.
قام (فولتير) بنشر أجزاء من كتاب الكاهن (مسلييه) كما أن ( ديدرو ) و(دي هولباخ) قدما خلاصة له عام 1772 م تحت عنوان (رجاحة عقل الكاهن مسلييه) ولكن النص الكامل للكتاب لم يطبع إلا بعد 130 سنة من موت صاحبه في عام 1864 م والمخطوط اليوم محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس.
جان مسلييه قبل ثلاثة قرون مشى على نصيحة من يريد لنا (حرية التفكير) ويغلق أفواهنا عن البيان ليضعنا في زنزانة (حرمة التعبير) على شكل كاريكاتور في مصادرة لكل الوعي الاجتماعي.
يحكى أن ملكاً كان يفتك بكل حلاق يقص له شعره لأنّه كان يفشي سر آذان الملك الطويلة حتى جاءه شخص كتم هذا السر واستمر في الحلاقة وحافظ على سلامة رأسه، ولكن الحلاق المسكين حتى ينفس عن احتقانه فيعبر عما يختلج في صدره لم يكن أمامه إلا أن يذهب في غفلة عن العيون وجواسيس السلطان ومخبريه إلى شاطئ النهر، وهناك أمام هدير الماء المتدفق كان يصرخ بأعلى صوته تعويضاً عن كل الاحتقان السابق: آذان الملك طويلة مشوهة قبيحة؟!
حتى جاء ذلك اليوم عندما نبتت فيه عيدان البوص التي يستخدمها الرعاة للنفخ واصدار الأنغام، وعندما بدأوا في النفخ ارتجت الحقول مع مزامير الرعيان فلم تعد ترسل أنغامها الخاصة بل كانت تردد بدون توقف مع كل نفخة هواء من فم الراعي جملة واحدة: آذان الملك طويلة .. طويلة.