يقول ابن خلدون رحمه الله:"كثيراً ما وقع المؤرخون في المغالطات، لأنهم اعتمدوا على مجرد النقل، بينما قواعد التمحيص واضحة، العرض على الأصول، والقياس بالأمور الشبيهة، والعرض على معيار الحكمة، والحكم بناءً على طبيعة البشر، والتدقيق في الأخبار"
إن كثيراً من الخلافات التي تقع بين المسلمين، مردها إلى سوء النقل للتاريخ، أو التدليس والكذب واصطناع الحكايات والقصص، وكذلك سوء استقبال الأخبار، من حيث قبولها كما هي دون تمحيص أو تدقيق، لذا فكم نحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ وفق القواعد العلمية، وكم نحن بحاجة إلى تأصيل الفكر التاريخي، وكم نحتاج أكثر إلى تحليل التاريخ، تحليلاً منهجياً.
التاريخ مليء بالقوانين
يخبرنا القرآن الكريم أن التاريخ مليء بالقوانين والسنن، ويدعونا إلى اكتشافها، والدعوة إلى الاكتشاف تعني أن فيها مجالاً واسعاً لاجتهادات العلماء والمفكرين، والأدلة القرآنية على ذلك كثيرة، نأخذ منها على سبيل المثال، قول الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) (آل عمران)
ونستفيد من قوله تعالى: (فسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) أن من طرق اكتشاف قوانين التاريخ النظر والسفر ودراسة تاريخ الأمم، والبحث في ماضي الشعوب وحاضرهم، ومَنْ نَظَر وسافر ودرس وحلل التاريخ وفق المنهج العلمي، وقواعد البحث العلمي، فسيجد قوانين تاريخية تحكم حركة الحضارات نشوءً واندثاراً، ارتقاءً وانهياراً.
حكم النظر
جاءت الدعوة إلى النظر والتأمل في الآية بصيغة الأمر (فَانْظُرُوا)، ومعلوم بالاتفاق أن الأمر يفيد الوجوب، ما لم ترد قرينة تصرفه من الوجوب إلى الاستحباب، فحكم النظر في سنن الله تعالى، والتأمل فيها وتدبرها، يتراوح بين الوجوب والاستحباب.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصار المؤمنين إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين) فكل الحضارات التي لم تقم على منهج الله تعالى، أو انحرفت ولم تستمر على منهج الله تعالى، انهارت واندثرت، فقيام الحضارات واستمرارها، أو اندثارها يقوم وفق قوانين تاريخية.
من قوانين التاريخ
من أهم قوانين التاريخ الناتجة عن السفر والنظر، والسير في الأرض:
▪ القانون الأول: الحضارات تحكمها القوانين
▪ القانون الثاني: تنهار الحضارات بسبب الانحطاط الأخلاقي، والقوى الخارجية.
▪ القانون الثالث: المدنية لا تساوي الحضارة، والعلم وحده لا يسعد البشرية
▪ القانون الرابع: الحضارة قد تمرض وقد تموت.
▪ القانون الخامس: المناعة الحضارية تحمي الحضارة من الاندثار أو الذوبان.
القانون الأول: الحضارات تحكمها القوانين
لا توجد قوانين خاصة بأمة أو حضارة، أو قوانين خاصة بشعب دون شعب، ولا مكان للصدفة في بناء الحضارات أو انهيارها، بل الأمر محكوم بسنن، فالحضارات تقوم وتسقط، وتنشأ وتنهار وفق قوانين تاريخية ثابتة، لا تعرف المحاباة ولا التحيّز.
وهذا القانون يبث الأمل في نفسي وفي نفس كل مسلم متحرّق على أمته، لأنه يقول لنا ببساطة واختصار: إن النهضة التي تسعون إليها محكومة بقوانين تاريخية، فمتى عرفت الأمة قوانين التاريخ، وأحسنت الاستفادة منها، وطوّعتها لصالحها، نهضت من جديد، وعادت كما كانت، أمة السيادة والريادة والقيادة.
القانون الثاني: تنهار الحضارات بسبب الانحطاط الأخلاقي، والقوى الخارجية.
تأملت في الحضارات التي سقطت، وتلك التي سادت ثم بادت، فوجدت أن أسباب سقوطها تنحصر في سببين رئيسيين، ومنهما تتفرع الأسباب الأخرى:
السبب الأول: الانحطاط الأخلاقي
كثيرة هي من الدول سقطت وانهارت بسبب الانحطاط الأخلاقي، وبالذات عند تفشي الظلم والاستبداد، ومن تلك الدول والحضارات، الحضارة الفارسية، الحضارة الرومانية، الحضارة الإسبانية، حتى في تاريخنا الإسلامي، كان الانحطاط الأخلاقي، وتفشي الظلم والاستبداد، سبباً رئيسياً في انهيار الدول، وخير شاهد على ذلك ما كان من أمر الخلافة العباسية في أواخر أيامها، حيث وصل الفساد إلى رأس الدولة، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى عن الخليفة العباسي "المستعصم بالله" كان فيه لين ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم، وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير".
السبب الثاني: المواجهة مع قوة خارجية
أحياناً لا يكفي أن يكون الانحطاط الأخلاقي سبباً لانهيار حضارة ما، بل ربما استمرت وطال بقاؤها، مع ضعف في بنيتها الاجتماعية، حتى يتوفر السبب الثاني، وهو أن تحدث مواجهة مع قوة خارجية، فإذا كانت القوة الخارجية أقوى وأسمى أخلاقياً من الحضارة المنحطّة أخلاقياً، فإنها ستُضعف الحضارة القائمة (المترنحّة) وتُسقطها لتحل مكانها، حتى وإن كانت أقل عدداً، وهذا ما حدث مع المسلمين عندما فتحوا بلاد الأرض بالإسلام، فقد كانت أعداد المسلمين قليلة، لكنهم كانوا أقوياء بإيمانهم وأخلاقهم والقيم التي ينادون بها.
القانون الثالث: المدنية لا تساوي الحضارة، والعلم وحده لا يسعد البشرية!
نعني بالمدنية الإنتاج المادي والمعنوي لأمة من الأمم، وهذه المدنية لا تسمّى حضارة، ولا تساويها ولا قيمة لها إلا إذا كانت نابعة من منهج فكري، فالفكر والإنتاج معاً يساويان الحضارة لشعب من الشعوب.
فكم من دولة عربية وإسلامية معاصرة تملك شبكة رائعة وضخمة من الطرقات (هذه مدنية) لكنها لا تملك شعباً يحترم قواعد المرور على هذه الطرقات، وكم من دولة تتفاخر بعض الدول بمكتباتها الكبيرة، والزاخرة بالمراجع والكتب والمخطوطات النادرة، ولكنها ابتليت بجيل لا يقرأ، وأمّية بلغت نسباً عالية ومتقدمة، وكم من دولة تنفق مئات الملايين على السلع الاستهلاكية، ولا تنفق عشر هذه الملايين على الأبحاث العلمية.
الإتحاد السوفيتي خير مثال على انهيار الدول بسبب الاعتماد على المدنية دون الفكر، بمقاييس المدنية كانت تجربة الإتحاد السوفييتي ضخمة وعظيمة، فهو أول من أرسل إنساناً إلى الفضاء، وكانت له مساهمات فاعلة في تطوير الطاقة النووية على مستوى العالم، لكن ما لبث أن انهار الإتحاد السوفييتي، وتفكك إلى أقاليم ودويلات وجمهوريات، وانهارت معه التجربة الشيوعية، التي لم تصمد إلا (70) سنة في صراعها مع الرأسمالية، لأنها حضارة قامت على الإلحاد والطغيان، وأُسست على منهج منحرف، ولم تجمع بين العلم والأخلاق.
وفي أوروبا الشرقية وبعد (40) سنة من الطغيان الشيوعي "أعلن كبار المسؤولين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه أن الكثير من المبادئ الماركسية لم تعد صالحة للبقاء، وليس بمقدورها أن تواجه مشاكل ومتطلبات العصر".
القانون الرابع: الحضارة قد تمرض وقد تموت
هناك وجه شبه بين الحضارات والإنسان، فكما أن الإنسان يولد ويكبر، ويقوى ويضعف، ويمرض ويموت، كذلك هي الحضارات، تولد وتكبر، تقوى وتضعف، تمرض وقد تموت، وهذا القانون ينطبق على كل الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية، فهي عرضة لتحديات التدهور والانهيار بمجرد غياب شروط الفعل الحضاري.. وليس ثمة حصانة إلهية مسبقة لهذه الحضارة أو تلك بسبب نزوعها الديني أو الإيماني؛ فإن استمرارية الحضارة رهن بما يصنعه أبناؤها أنفسهم في ضوء جملة من الضوابط والمعايير والعوامل التي إذا أسيء التعامل معها سيقت الحضارة إلى مصيرها المحتوم.
ولابد أن نفرق بين المرض والعَرَض، فالحرارة التي تصيب الإنسان تسمى "العَرَض" أما سبب هذه الحرارة فيسمى "المَرَض"، فنحن نريد أن نعالج الأمراض وليس الأعراض.
الحضارات المؤمنة القائمة على التوحيد، لا تموت طالما بقيت على توحيدها، لأن الإيمان والتوحيد يشكلان مناعة قوية في مواجهة عوامل الاندثار، التي تؤدي إلى الموت والانهيار، فالحضارة الموحِّدة قد تضعف وقد تمرض لكنها لا تموت، وأمتنا اليوم مصابة بمرض الْوَهْنَ، وهو مرض قد يُضعفها ويبطئ من حركتها لكنه لا يقتلها، لكن قد يُهلكها الظلم إذا تفشى وانتشر، وغاب من يتصدى له، ويقيم العدل بين الناس.
نهاية الحضارات
قد تصل الحضارة إلى إحدى نهايتين إما أن تموت، وهذا مصير غالبية الحضارات، وإما أن تمرض مرضاً شديداً يؤدي إلى ركود وشلل، يشبه الغيبوبة التي تصيب الإنسان فتشل حركته، وتنقسم الأمراض التي تصيب الحضارات إلى قسمين:
- القسم الأول: أمراض مزمنة وتشمل الأمراض التي تصيب المنهج الفكري للحضارة، أو في الأسس الأخلاقية التي قامت عليها تلك الحضارة، وهذه الأمراض إن لم تُستدرك كانت سبباً في الوهن الشديد، وربما سبباً مباشراً لانهيار تلك الحضارة وموتها.
- القسم الثاني: أمراض عَرَضية: وتشمل الأمراض البعيدة عن المنهج الفكري والأسس الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة، وغالباً ما تصيب الأشكال المادية والمعنوية فيها، كحدوث خلل في عجلة الاقتصاد، أو تخريب للبنى التحتية، وهذا من شأنه أن يُضعف تلك الحضارة، لكنها غالباً لا تموت، ولكنها قد تتحول إلى أمراض مزمنة إذا تمّ تجاهلها، أو التباطؤ في علاجها.
فالخلاصة أن الحضارات لا تموت إذا كانت أمراضها ومشكلاتها مادية، ولكنها قد تموت إذا أصابت الأمراض فكرها، لأنها تكون قد أصيبت في مقتل.
القانون الخامس: المناعة الحضارية تحمي الحضارة من الاندثار أو الذوبان
من الأسباب الرئيسة لموت بعض الحضارات ضعف أو انعدام المناعة، مما يسمح للأمراض أن تستشري بها وتفتك بمكوناتها، والنتيجة هي موت الحضارة واندثارها، وهناك حضارات مريضة بسبب ضعف مناعتها، والمناعة هي أيضاً سبب بقاء وصمود كثير من الحضارات، لكن ماذا نعني بالمناعة الحضارية؟
أستطيع أن أعرّف المناعة الحضارية بأنها مدى صواب وصحة الفكرة وانتشارها، ومدى إيمان العامة بها، وتطبيقهم لمستلزماتها، ومدى قدرة المنهج الفكري على مواجهة الأفكار والمناهج المنحرفة.
فالمناعة الحضارية تمثلها المعادلة التالية: منهج فكري قوي+ انتشار المنهج بين كافة طبقات الأمة+ إيمان العامة به+ درجة التطبيق= مناعة قوية.
كيف تتشكل المناعة الحضارية؟
الحضارة تولد بفكر قد يؤسسه نبي أو مصلح أو فيلسوف أو بعض الأشخاص، وهذا الفكر قد يكون صائباً وقد يكون منحرفاً، ثم تتلوها مرحلة تمحيص الفكر، من خلال الحوار والنقاش وإثارة التساؤلات، ومواجهة الشبهات، فإذا كان الفكر صائباً اشتد عوده، وقويت حجته، وصار أكثر إقناعاً وانتشاراً، وإذا كان الفكر ضعيفاً هوى وتلاشى واضمحل.
وتبلغ الحضارة ذروة قوتها وفاعليتها عندما ينتقل الفكر من النخبة المؤسسة إلى عامة الناس، وهنا تزداد المناعة الفكرية للحضارة،كلما استوعب عامة الناس الأسس الفكرية التي قامت عليها حضارتهم، وكلما ضعف ارتباط الناس بالمنهج الفكري، أو ضعف تفهمهم للأسس الفكرية التي قامت عليها الحضارة، كانت الفرصة مهيأة لدخول أفكار منحرفة، ومناهج مختلطة تكدر صفاء المنهج الذي قامت عليه الحضارة.
الذوبان علامة على ضعف المناعة
المغول هم إحدى المجموعات العرقية التي نشأت واستوطنت أواسط آسيا، وقبل عدة قرون وبسبب قوتهم العسكرية الضخمة والهائلة احتل المغول العالم الإسلامي آنذاك، وأحكموا قبضتهم عليه، وبسطوا نفوذهم على مناطق شاسعة، كالعراق وبلاد الشام، ولكن لم يدم هذا الانتصار المغولي، فبعد مائة سنة دخل كثير من المغول في الإسلام، مع أنهم منتصرون وأصحاب قوة ونفوذ، وسبب هذا التحول والذوبان في دين الإسلام، هو عدم وجود مناعة لدى المغول تمنعهم من الانتقال إلى الدين الجديد، دين الإسلام العظيم، فكانت النتيجة أن ذابوا في حضارة الإسلام، وأصبحوا من الناشرين لعقيدة التوحيد، ومن المدافعين عن دار الإسلام، وشيّدوا دولاً إسلامية في شبه القارة الهندية، ونحن بالمقابل إذا ذبنا في الحضارات الأخرى، فهذا دليل على ضعف مناعة حضاراتنا.
من أين تأتي المناعة؟
تأتي المناعة الحضارية وتتشكل من عدة عوامل:
- وجود فكرة حضارية قوية، ولا توجد فكرة أقوى وأسمى من فكرة الإسلام الصافي.
- شرح الفكرة بكل وضوح لعامة الناس، وعدم اقتصارها على النخب المثقفة، من العلماء والمفكرين والسياسيين.
- إيمان عامة الناس القوي بالفكرة الحضارية، وتطبيقهم لمستلزمات المنهج الفكري الذي قامت عليه الحضارة.
- درجة تطبيق أتباع الفكرة لفكرتهم، فما قيمة لفكرة مجردة ليس لها أثر في واقعهم.