وتستمر دروس غزة، دروس تخط بالدماء والأشلاء، وتبنى بهدم الدور وحفر القبور. ليت شعري، أنفرح ببسالة رجالها وجلد نسائها ورجولة أطفالها، أم نحزن لعزلتها وغدر إخوانها ولهو أمتها.
ألا يحق لنا أن نتوجع كما توجع قبلنا ابن الاثير وهو يهم بذكر غزو التتار بلاد المسلمين قائلا: "لقد بقيت مدة معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنت نسيا منسيا"[1].
"نعي الإسلام" ذلك الوصف الذي اختاره ابن الأثير لقصة غزو ابتلي به المسلمون دهرا كاد يأتي –وأنى له- على الإسلام والمسلمين. ولكن هل من مبلغ عنا ابن الأثير ما فعل بنو إسرائيل الذين استصغر -رحمه الله- ما كان منهم أمام تقتيل المغول.
وإنك وأنت تقلب صفحات التاريخ لعلك تظفر بسلوة عما تجد من واقع الحال، لا يكاد يستوقفك غير ذاك الغزو التتري، فتلفي أوصاف من مضى لما مضى صالحة لما حل بنا معشر أهل الإسلام.
ولئن كان القدامى قد شكوا طغيان المغول وهمجيتهم وعثوهم، فاليوم الشكوى من خذلان عم وطال. الدور تهدم على أهلها على مرأى الأمة ومسمعها، فكيف ترانا سنروي ما نرى؟ وما عذرنا لمن سيخلفنا؟ أصار قصارى هبة من هب منا إرسال كسوة أو لقمة أو لحاف؟ نعم ذاك قد يسقط الكلفة عن أفراد الأمة، ولكن قطعا ليس يسقطها عن الأمة. هي والله معرة الزمان لمن تخاذل وخان، ورضي بالحياة الدنية واستكان.
وفي الوقت الذي نحن فيه نتوجع وننعى أنفسنا، لم يزل إخوان لنا يصونون حياض الإسلام ويذودون عن ما بقي من عزة في غزة، بل لم يزالوا يؤولون مواعظ القرآن ويفسرون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بالأفعال لا بالأقوال، وهم يرددون بالحال قبل المقال قول المتوجع ياقوت الحموي [2]:
تنكر لي دهــــري ولم يــدر أنني أعـــــــــز وأحداث الزمان تهون
وبات يريني الخطب كيف اعتداؤه وبت أريه الصـــبر كيف يكون
وفي يد أحدكم فسيلة
ألم يقذف في ذهنك وأنت تتابع القائد يقذف بعصاه تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" [3].
وقيامة الرجل موته، كما ذكر عن علقمة بن قيس، أنه كان في جنازة رجل، فقام على القبر فلما دفن قال: أما هذا العبد فقد قامت قيامته[4].
إن العصا وعظت فقالت: ابذل ما في يدك، وعلى قدر طاقتك ولا تبخس بذل ما أولاك الله في سبيل الله.
وقالت: أنا مجرد عصا، ولكن صحبت أهل الحق فشرفت، وصرت مضرب الأمثال، وكم حركت من أقلام، فبالله عليكم لا تذروا حوز الشرف بصحبة أهله والذود عنهم.
وقالت: ليس في أيديكم –معشر من آمن- فسيلة بل فسائل، وهذه قيامة أطفال وشيوخ ورجال قد قامت وما غرستم.
وقالت: لئن كنت رميت على العدا، فإني محذرة منبهة لمن يُرَجَّى أن يكون سندا.
هي والله فتنة تمر بالأمة ويصح فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا" (سنن الترمذي، رقم: 2197).
فهذه سوق، وما منا إلا هو بائع ومبتاع، فبائع ربح بيعه فهو من أهل: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، وثان باع دينه فأسلم إخوانه وذويه والتهى بتجارة بائرة لا تسمنه ولا تغنيه فهو من أهل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8].