كيف انهارت الحضارة الإسلامية؟ وكيف سقط العالم الإسلامي؟ كيف غاب عن التاريخ؟ كيف فقد القدرة على تقرير المصير؟ لماذا لم يعد يشارك في صناعة الأحداث؟ بل لم يعد يدري ماذا يحدث له أصلاً، أصبح مصنوعاً ولم يعد صانعاً؟ أصبح يُخَطَطْ له، وينفذ فيه، وهو لا يدري ماذا يحدث!
كيف قفز الأوربيون إلى دفة قيادة التاريخ وصناعته؟ متى حدث هذا؟ هل له بدايات أو مؤشرات؟ وبكلمة مختصرة هل يخضع المسلمون إلى قانون الله كما يحدث مع كل الحضارات والأمم؟ أم هم استثناء عن هذه القاعدة وشذوذ على القانون؟ وأبناء الله وأحباؤه المدللَّون؟!! فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق!.
أما أن العالم الإسلامي سقط مضرجا بدمه في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي فلا أصعب فيه من استحضار الذاكرة الجماعية المروعة عن سقوط بغداد منارة العلوم عام 1258م، الذي تلى سقوط إشبيلية عام 1248م بعد عقد من الزمن، وبهذا سقط جناحا العالم الإسلامي؛ المغربي تحت الاندفاع الأسباني في حروب الاسترداد؛ والشرقي تحت الزحف المغولي المرعب شتاء عام 1258 للميلاد.
ولنذهب إلى أسوار بغداد لننظر ماذا حدث في شتاء عام 1258م
في الرابع من صفر من عام 656 هـ الموافق 13 فبراير من عام 1258م بعد أن طوِقت بغداد من كل جانب ولم يبق أمام الخليفة العباسي إلا الاستسلام فذهب لمقابلة عاهل المغول خارج بغداد، دخل الخليفة العباسي مجلس هولاكو مرتاعاً، فابتسم الأخير بخبث ثم قال له: أنت المضيف ونحن الضيوف فانظر بماذا تكرم ضيوفك؟ فهرع الخليفة إلى دار الخلافة فأحضر الدنانير والخلع والجياد، فنظر إليه هولاكو بسخرية وقال: هذه ليست لنا بل هي لعبيدنا! ما نريده الدفائن، فدلهم الخليفة على بركة من الذهب الخالص في القصر الملكي (وكان بإمكانه تجنيد مئات الآلاف بها) فحفروا البلاط والرخام وأخذوها، ثم أخذوا بعدها روح الخليفة بوضعه في كيس، وإزهاق روحه بالرفس كي لايندلق دمه على الأرض فيؤخذ بثأره بزعمهم بموجب عقائد المغول، ثم قتلوا أولاد الخليفة الكبار أحمد وعبد الرحمن، ثم استاقوا الصغير مبارك وأخواته الثلاثة خديجة ومريم وفاطمة إلى الأسر، ليوضعوا في حصص أمراء المغول من أسرى الحرب. وكانت بغداد منارة العلوم آنذاك قد استبيحت وقتل من أهلها في أقل التقديرات ثمانمائة ألفاً، في ظل استباحة للمدينة لزمن دام أربعين يوماً.(1).
جيش هولاكو يحاصر أسوار بغداد، من 29 يناير إلى 10 فبراير سنة 1258.
أوبئة انتشرت بسبب الحروب.. أبرزها طاعون سقوط بغداد
يقول الحافظ ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) الذي يبحث في التاريخ (2): ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، واختفوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكانَت الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فيَفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الأنهار من الدماء في الأزقة.. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة فقد قيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغ عدد القتلى ألفي ألف نفس(رقم المليون لم يكن معروفاً).. وكان الرجل يُستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فُيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقُتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمُعَاتْ مدة شهور ببغداد..
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتن من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد ولحِقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
كيف يفسر حدث بمثل هذه الضخامة؟
كيف يمكن أن يفهم أو يفسر حدثٌ في مثل هذه الضخامة، يفقأ العين، عن انهيار مريع للحضارة الإسلامية، في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث ابن لبيد عن زمن الانهيار المرتبط بــ (ذهاب العلم) لم يكن باستطاعة الصحابي أن يستوعب مثل هذه الظاهرة فكان يقول: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن؟ ونقرأه أبناءنا، وأبناؤنا سوف يُقرئون أبناءهم القرآن! لم يقل له رسول الله صل الله عليه وسلم أتكذبني وأنا رسول الله؟ كما لم يقرأ له آية من القرآن، بل أخذ بيده إلى الواقع، ليريه واقعة يومية متكررة عن أقوامٍ آخرين انطبق عليهم القانون الإلهي: أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيها بشيء(3).
هذا هو القانون النفسي الاجتماعي الذي تتردى فيه الجماعات الإنسانية والذي يوصلها إلى الوضع الذي لا تستفيد فيه مما عندها، ولو كانت كنوزاً رائعة وذخائر نفيسة، ومجلدات مثيرة، وعلم لا ينتهي.
ويذكر القرآن أنموذجاً عجيبا ً للحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً من الكتب الرائعة، والمجلدات الثمينة ولكن هل بإمكان الحمار أن يقرأ سطراً واحدا؟!.
والمثل جاء بالأصل عن اليهود، ولكن لا يخرج اليهود عن كونهم بشرا ً انطبق عليهم القانون الإلهي، ويقبل أن يتكرر في أوساط إنسانية أخرى وفي هدا يقول عز وجل (مثل الذي حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً) [سورة الجمعة الآية: 5].
كيف تصاب الحضارات بالعقم؟
كيف تسقط الحضارات وتَنهار الدول؟ كيف تصاب الأنظمة بالعقم؟ هل هناك قانون تنتظم تحته مثل هذه الوقائع؟ أو هل هناك بالأصل سنن اجتماعية تسير بموجبها حركة التاريخ؟ لاشك أن الحريق المغولي كان كاسحا ً ماحقا ً مدمراً!
يقول ويل ديورانت في سفره الضخم عن قصة الحضارة مؤرخاً للإعصار المغولي: وهلك في هذه المذبحة الشاملة آلاف من الطلاب والعلماء والشعراء، ونهبت ودمرت في أسبوع واحد المكاتب والكنوز التي أنفقت في جمعها قرون طوال، وكانت مئات الآلاف من المجلدات طعمة للنيران.. ولسنا نعرف أن حضارة من الحضارات في التاريخ كله قد عانت من التدمير الفجائي ما عانته الحضارة الإسلامية على يد المغول.
لقد امتدت فتوح البرابرة لبلاد الدولة الرومانية قرنين من الزمان، وكان في استطاعة الدولة أن تنتعش بعض الانتعاش بين كل ضربة وضربة، وكان الفاتحون الجرمان يكنون في قلوبهم بعض الإجلال للدولة المحتضرة، ومنهم من حاول المحافظة عليها؛ أما المغول فقد أقبلوا وارتدوا في أربعين عاماً لا أكثر، ولم يأتوا ليفتحوا ويقيموا، بل جاؤوا ليقتلوا ويَنهبوا ويحملوا ما يسلبون إلى منغوليا.
ولما ارتد تيار فتحهم الدموي مخلفا وراءه اقتصاداً مضطرباً، وقنوات للري مطمورة، ومدارس ودوراً للكتب رماداً تذروه الرياح، وحكومات منقسمة على نفسها، معدمة ضعيفة لا تقوى على حكم البلاد، وسكاناً هلك نصفهم وتحطمت نفوسهم؛ ولكن حتى يمكن فهم كيف تحدث مثل هذه الوقائع، لابد من وضعها تحت التحليل، وسبر أغوارها بمعيار الحكمة، وعرضها على أصولها، ومَقارنتها بنظائرها، وفهمها من خلال علاقة جدلية بين السبب والنتيجة، والعامل الخارجي والداخلي.
الحدث التاريخي.. هل يمكن فهم أي حدث بدون مقدماته ونتائجه؟
ولنتقدم بالبحث خطوة أعمق، هل يمكن فهم أي حدث بدون مقدماته ونتائجه؟ هل يحدث بدون قانون ينظمه؟ والعناصر الداخلية والخارجية أيهما أثقل في الميزان؟ وإذا كانت العناصر الخارجية والداخلية هي التي تتفاعل لتبرزه إلى الوجود، فأي العناصر أهمُ في التأثير، وأبلغُ في التفاعل، وأثقلُ في الميزان؟ أي العناصر أشد حسماً، وأعظم أثراً، وأبلغ نتيجةً؟
هل يسيطر هذا القانون، أو تعم هذه المعادلة مساحات شتى من الوجود، بحيث تنتظم شرائح منوعة، وقطاعات شتى من الوجود المادي العضوي والنفسي والاجتماعي والدولي والحضاري؟ إذا كانت جحافل المغول اجتاحت المشرق الإسلامي، فكيف يُعَلَّل سقوط الجناح الغربي في قرطبة وبالينثيا وسرقسطة وطليطلة وأخيراً اشبيلية؟ حيث لم يكن هناك مغولاً؟.
عندما يتلقى فرداً ما صفعة فيسقط ميتا، يجعلنا نتساءل هل الصفعة أودت به إلى الموت؟ أم أن الصفعة أظهرت الموت الذي كان على وشك الظهور؟ لأن العادة تقول أن المرء لا يموت من الصفعة؟!.
عندما تهب الريح على الغابة فتسقط بعض الأغصان، وتطير بعض الأوراق، وتهوي بعض الجذوع، فإننا لانقول أن الريح هي التي أسقطت الأوراق؛ إذن لو كان الأمر كذلك لسقطت كل الجذوع، ولهوت كل الأشجار، وتناثرت كل الأوراق؟!.
عندما يحدث المرض، لا يحدث لأن الجراثيم هي التي سَبَبُّته؟! إذن لكان الإنسان مريضاً بدون توقف، عليلاً بدون فواصل، يسعل قيحاً، وينفث دماً، يجر أطرافه تعباً، ويرفع رأسه وعينيه متثاقلاً، والسبب في هذا أن الجسم الإنساني كما نعرفه نحن الأطباء بصورة جلية واضحة أن الجراثيم لا تغادر البدن لحظة، ولا تتركه لِثانية. لطْخة من الأنف تعطي المنظر المرعب عن حقول لاتنتهي، من قبائل الجراثيم، وعصابات الميكروبات، من أصنافٍ شتى، وفصائل مختلفة، بل إن ملغرام واحد من البراز يحتوي ما لا يقل عن 140 مليون جرثومة، كل منه عنده قدرة مريعة على التكاثر، وفتكٍ مدمر للعضوية؟!.
كيف يحدث المرض؟
إذن كيف يحدث المرض؟ والجواب يحدث نتيجة اختلال التوازن بين هجوم الجراثيم وانهيار الجهاز المناعي؛ المرض هو في الحقيقة تعبير عن انهيار الجهاز المناعي أكثر منه سطوة الجراثيم واستفحال هجومها، وعندما يعود البدن إلى الحالة السوية فإنه يتجاوز هذا الوضع الرائع المبدع إلى أعلى غايات التعقيد عن طريق سيطرة جهاز المناعة. ولا نريد أن نجعل من المقالة بحثاً طبياً خالصاً، ولكن نشير إلى أن كل فعاليات البدن تمشي وفق هذا الناموس، وتُسبِّح الله على هذه الطريقة.
إن دخول جرثوم واحد إلى البدن يعني استنفار الكريات البيضاء التي تمثل الفرق الانتحارية الاقتحامية لملاقاة الزحف المغولي الجرثومي، ويجب أن يتم هذا بسرعة، لأن الجرثوم ينقسم أكثر من مرة كل نصف ساعة، وهذا يجعلنا نخاف من الرقم المريع للتكاثر في مدى أربع وعشرين ساعة (اضرب رقم واحد في 48 مرة مضاعفاً).
تبدأ المعركة المقدسة لصد الاجتياح المغولي الجرثومي، وبأَشرس أنواع الأسلحة المناعية وجهاً لوجه، وعندما ترى أيها القارئ القيح فقف باحترام كبير، وارفع يدك بالتحية، لأن هذا القيح المنساب هو جثث الكريات البيض التي سقطت في معركة الدفاع عن البدن الحي، بل إن مرض الإيدز الجديد والمهدد للعالم، والذي لم يكتشف فيه حتى الآن لقاحاً واقيا، أو عقاراً شافياً، يعتبر أبو الأمراض ورأس البلايا كلها، وجذع المصائب بدون مبالغة، ذلك أن الفيروس يتسلل إلى الجهاز المناعي فيفتك به، أي أنه بعبارة أخرى يخترق مركز المقاومة، ويكسر العمود الفقري للمقاومة، بل أكثر من ذلك، باعتبار أنه من مركب مشابه لتركيب الكروموزوم، إنه يخترق الخلية، ثم النواة، ثم تركيب الأحماض الأمينية المشكِّلة للجينات، ليصبح قطعة من دمنا ولحمنا، عصبنا وعظمنا، وتبقى مهمة الجسم أن يكاثره، ويزيد من عدده، باعتبار أنه قطعة من تركيب الكروموزومات المشكلة والمهندسة لتركيبنا بالكامل.
في الواقع إن الإيدز يعطي فكرة عن انهيار المقاومة، لإن انهيار الجهاز المناعي يجعل الجسم مستهدفاً من كل أنواع الجراثيم والفيروسات والفطريات، وكل الطبقات الممرضة من العضويات المجهرية الصغرى.
بل ألعن من هذا وأشد، أعني الإصابة بالسرطان، لإن السرطان بالذات هو وجه العملة الثاني لانهيار الجهاز المناعي، لذا كثر إصابة متقدمي السن بالسرطان، وكاد أن ينتفي عند الأجنة في الأرحام. والأيدز المجرم، باعتبار أنه ينهك الجهاز المناعي عند الشباب العاكفين على شهواتهم، المخدرين باللذَائذ المقلوبة المعكوسة المنكوسة، فإنه يطل بقرن جديد، وبثورة عارمة من انفجار السرطان عندهم، وما أدراك ما السرطان!
قانون المرض.. من أين تبدأ عملية توليد الحدث؟
إذن مع فهم أعمق لفلسفة المرض، نخرج بقانون صارم، أشد حدة من مشرط الجراحين، هو أن العامل الداخلي هو الذي يبدأ في عملية توليد الحدث، وتهيئته بعد ذلك، وإبرازه إلى الوجود، ويبقى العنصر الخارجي هو الذي يكشف الغطاء عن التفاعل الداخلي، ويشير إليه ويدلل عليه، ويقول هذا هو.
هذا القانون يخضع له الوجود المخلوق بكل شرائحه ومستوياته، أوراق الشجرة تسقط بسبب ضعف ارتباطها بالغصن، والمرض يحدث بسبب ضعف أو انهيار الجهاز المناعي. والفرد يختل بسبب أوهامه الداخلية، والمجنون المصاب بالبارانويا يظن أن الناس كلهم يتآمرون عليه.
كما هو الحال عند كثير من الساسة والمفكرين بكل اتجاهاتهم في العالم العربي الذين يبحثون عن أكباش الفداء، تفسر واقع المسلمين والعرب غير السار والذي لا يبعث على البهجة، وهكذا فإن أكباش من أمثال الصهيونية والاستعمار وقوى التدخل الخارجي والرأسمالية العالمية والماسونية والنورانيين والقوى الخفية والمنظمات السرية والحركات التبشيرية وحكومات العالم الخفية..
وإذا لم يبق في الجعبة شيء فالشيطان جاهز لنَصب عليه كل مصائبنا التي نفعلها بأيدينا، وكل الكوارث التي نسعى إليها بأقدامنا، وإذا غابت كل التفسيرات فهناك التفسير الذي يُخَرِّس الجميع فلنقل القدر والحظ ول امانع من إدخال إرادة الله، التي شاءت أن ترفع غير المسلمين، وتنزل كفة المسلمين.
فلسفة القرآن في المناخ الملائم للمصائب!
لكن ليس هناك استعداد ولو للحظة واحدة للرجوع إلى فلسفة القرآن التي تنص على أن ما يحدث هو (من عند أنفسكم) وأن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وأن ظلم النفس هو المناخ الملائم والمهيء لكل المصائب اللاحقة، وأن علينا أن نعتاد وندرب أنفسنا أن لا نلوم أحداً، بل أن نرجع فنلوم أنفسنا دوما ً لإن هذا هو مفتاح الحل، وتكوين مثل هذا الخلق، والوصول لتشكيل نفسية من هذا النوع جعلها الله موازية في الثقل ليوم القيامة (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوَّامة) [سورة القيامة الآية: 1]. فإذا كانت القيامة هي للفصل بين الناس وبين الإنسان وعمله، فإن النفس المراجعة المنضبطة التي اعتادت النقد الذاتي هي المرشحة للنجاح في ذلك اليوم العصيب.
كيف نقلب قوانين الكون من أجل ذواتنا المنتفخة؟
إن الفرق بين الشيطان الذي دخل اللعنة الأبدية وآدم الذي نال رحمة الله هو التوبة، وفلسفة التوبة تعني القدرة على المراجعة والاعتراف بالخطأ (رب إني ظلمت نفسي) [سورة القصص الآية: 16]، في حين أن لوم الآخرين هو طريق الشيطان الذي برأ نفسه وألقى اللوم على رب العزة أنه هو الذي أغواه (بما أغويتني) [سورة الحجر الآية: 39]. هذا الطريق الضلالي والمفضي إلى اللاَتوبة هو الاستعداد للوم الآخرين، وإلقاء التبعة على ما يحدث من مصائب على الآخرين، بل الاستعداد لقلب قوانين الكون وعدم الاعتراف للحظة أن هناك ولو احتمال أن تكون ذواتنا المنتفخة قد أخطأت، كما يروى عن ذلك المؤذن الذي حضر للمسجد لصلاة الصبح والناس منْصرفون، فلما سئل عن سبب تأخره قال: أنا حضرت حسب الوقت ولكن الشمس أشرقت اليوم باكرأً؟!. كذلك فإن العائلة تتفكك بالنزاع الداخلي، والدول تسقط بالعفن والمرض الذي ينخرها من الداخل، والامبراطوريات تموت بعللها الداخلية قبل كل شيء.
فإذا جاء كمال أتاتورك ليوزع بطاقات النعوة ولقراءة الفاتحة على روح الدولة العثمانية، فهو لا يمثل أكثر من دابة الأرض التي قضمت عصا سليمان وهو ميت فانهارت الجثة، فاحتفل الجن بموت سليمان عليه السلام (فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل مِنْسَأَته فلما خرَّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين ) [سورة سبأ الآية: 17].
الحضارات تسقط ليس بالهجوم الخارجي بل بالانتحار الداخلي، والمرض الطويل الذي يسلمها إلى الموت في النهاية، هذه هي البانوراما الكبرى في صعود الأمم وسقوطها، هذا هو قانون التاريخ الذي لا يستجيب للبُكاء والأنين، ولا يتوقف على الصراخ والعويل (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين) [سورة الأنبياء الآية: 11].
عِلة الانتحار الداخلي في انهيار الحضارات!
عند دراسة قيام الحضارات ثم انهيارها يرى المؤرخ البريطاني توينبي: أن الحضارة تبدأ بأقلية مبدعة تسوق الناس على أنغام المزمار بآلية المحاكاة، وتتوقف لتنهار بعد ذلك، عندما تتحول تلك الأقلية المبدعة إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالسوط، وينشق المجتمع عند ذلك إلى طبقات، ويصاب بالمرض الفرعوني.
فرعون الذي لعنه الله في القرآن (4) وحتى يمكن فهم هذه الظاهرة المروعة أكثر من تاريخنا؛ وهو يهوي تحت السيف المغولي، فإن التاريخ ينقل لنا قصصاً لاتكاد تصدق، سواء من مستوى القيادة، أو مستوى الأمة، بين اتصالات مريبة من السلطان العباسي الناصر لدين الله الذي رَاسل جنكيزخان يدعوه لغزو بلاد خوارزم، لتخليصه من منافسه هناك جلال الدين، والذي كان يخشى من زحفه باتجاه بغداد، فجاءه طوفان يأجوج ومأجوج بعد ذلك ليَعدم ولده المستعصم وأحفاده وحفيداته.
أو في نفس حكايات جلال الدين الذي كان مغرماً بطَواشي له (خادم خصي) فعندما مات فقد عقله وامتنع عن الطعام والشراب، وأنكر موته، وحمل تابوته على رقاب قواد الجيش(كذا) (5).
أو في استعدادات الخليفة العباسي لمجابهة الحصار المغولي وهو مضطجع لجارية تلعب بين يديه وتضحكه، والنبال المغولية تتساقط على دار الخلافة كزخ المطر، ثم يصحو الخليفة حينما تقتل هذه المحظية بين يديه بسهم جاءها من بعض الشبابيك؟!!، ويعقب ابن كثير على الحادثة بين الحقيقة والأسطورة فيقول أن السهم كان مكتوباً عليه: (إذا أراد الله إنفاذ قضائه أذهب من ذوي العقول عقولهم؟!!).
أو في قصة التتري الذي أمسك مسلماً ليذبحه، فلما أضجعه استدرك أن سيفه قد سقط منه، فأمره بالبقاء حيث هو، ثم غاب الجندي التتري سويعة وعاد وهو لا يكاد يصدق، فالمسلم مازال ينتظر الذبح (6) لإن غريزة التمسك بالحياة قد تلاشت، فأمة من هذا النوع لا يحتفظ بها التاريخ، ولايوفرها الجنس البشري بل يمشي القانون الإلهي (وإن تتولوا يستبدل قوما ًغيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)[سورة محمد الآية: 38] .
عَقبَ ويل ديورانت على الاجتياح المغولي في أسبابه الدفينة البعيدة بقوله: واجتمع الانغماس الأبيقوري في الملذات، والهزال الجسمي والعقلي، وخور العزيمة والعجز الحربي، والانقسام الديني، والالتجاء إلى المراسم الغامضة الخفية، والفساد السياسي والفوضى الشاملة، اجتمعت هذه العوامل كلها لتحطيم كل شيء في الدولة قبل الغزو الخارجي.
لقد كان هذا كله سبب ما حصل، ليس تبدل المناخ هو الذي بدل آسية الغربية من زعامتها على العالم فقراً مدقعاً، وخراباً شاملاً، وأحل محلها مئات المدن العامرة المثقفة في الشام وأرض الجزيرة وفارس والقفقاس والتركستان ما تعانيه في الوقت الحاضر من فقر ومرض وركود.(7)