عقود من التعليم التقليدي أو بالأحرى التلقيني المرتكز على طريقة التلقي والجمع المعلوماتي والتحوير العلمي عديم الإبداع. هكذا أرادته الآلة السلطوية في وطننا العربي لاعتبارات ليس من بينها العجز عن توفير المرافق والمؤسسات العلمية والبحثية والتطبيقية اللازمة لعمليةٍ تعليمية ناجحة تنتفع بها الأمة وترقى بها في سلم الحضارة الخالي من مساهماتها!
فهي تنفق ببذخ على مشاريع شحيحة النفع، موفورة الضرر، مهمتها الحفاظ على العروش بالإضافة لمشاريع خدمية واقتصادية قليلة الجدوى مضاعفة التكلفة يتم بها استلطاف الشعوب ودغدغة عواطفها، إن الحفاظ على النظام التعليمي الشكلي بطريقته التلقينية الطاردة للإبداع المستلهمة لروح الاستبداد المتمثلة في احتكارية التفكير في إطار المقررات؛ لا يُسمح للطالب الموهوب أن يكتشف موهبته، ولا للعبقري أن يكتشف عبقريته، فالموهبة والعبقرية لا يتسع لهما فضاء التلقي.
وأما التحليق بعيدا عن الطريقة المرسومة ممنوع يستوجب الفشل قبل مناقشة نتائجه! أذعنت العقول وتقوقعت وهي تتوهم التحليق للأسف الشديد إنها في عنفوان غرورها وقد تخيّلت الإبداع شيئًا يمكن إدراكه في صفحات البحث محدد الهدف معلوم النتيجة سلفًا! فانتشت بإنجازه ولكنه إبداعًا وهميًا لا يعدو عن كونه صكًا للغرور، وسُلّمًا للرقي اللامثمر والمجد الأجوف!
رُتبٌ علميةٌ وتقديرات مشرِّفةٌ ولكنها لا تفك الأغلال التي ضُربت على العقول فقيّدت التفكير، ولم تحرر صاحبها من التبعية وروح العبودية التي كرستها البيئة الفكرية منذ طفولته.
"فالمتعلم هو من تعلم أمورًا لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره. فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّق في مجال نظره. هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرّضه على الكفاح في سبيله". علي الوردي، خوارق اللاشعور
هذه البيئة التي كان ينبغي أن يتحرر من أغلالها الأكاديميون وأصحاب الشهادات والتقديرات العالية تظل كما هي حاضنةً لتفكيرهم الأكثر انصياعًا لها بدافع الغرور الذي ينضاف إلى سلوكهم عمليةٌ متكاملة ومسيرةٌ ممتدة، لم تخض مؤسساتنا التعليمية أي صراع ضد البيئة الفكرية الموبوءة بصراعات الماضي العبثية وجدلها المستدير.
ترابط وثيق بين التعليم التلقيني التقليدي الفاشل، الذي لم يخطو بالأمة ولو خطوة واحدة الى الأمام وبين تلك البيئة الماضوية الرافضة بإصرار عنيد الانصياع للحاضر أو التصالح معه! الخاضعة لموجة استقطاب حادة اختزلت عملية تفكير المجتمع في قوالب ثقافية تحكم غلقها الثوابت والمسلّمات الدينية والوطنية والقومية، قوالبٌ ضيقةٌ في عدسة الواقع واسعةٌ في أعين المؤطرين الواهمين؛ وهذا هو السر في أن يكون سجناء الفكر أكثر الناس شعورًا بالتحرر إذْ كلما ضاق أفق التفكير اتسع أفق الغرور وشعر الإنسان بالإلمام بأسرار الكون وأحاط بعلوم الأولين والآخرين.
و"كلّما ازداد الإنسان غباوة ازداد يقينًا بأنه أفضل من غيره في كل شيء". علي الوردي، مهزلة العقل البشري
أفرزت هذه البيئة فئتين لا يختلفان إلا في نسبةِ الغرور وذلاقة اللسان، الأولى عاجزةٌ مغرورةٌ اسمتها النُخبة والأخرى عاجزةٌ خانعٌةٌ أسمتها العوام، فنفخت في الأولى روح الريادة ممزوجًا باستحقاق العبودية وقابلية الخيانة. وفي الثانية روح التبعية وقابلية التحشيد فاغتر المتبوع وذل التابع وأودت بنا توافقات التخلف إلى هوة الصراع بأشكاله المختلفة، حربٌ هنا وتوترٌ هناك أزمات تتوالى وإرهاصات لا تنتهي ولا مخرج ولا مفر إلا بمراجعة جذرية لأفكارنا ومعتقداتنا ونزاعاتنا الوجدانية التي أفرزتها المسلمات الفكرية واختبارها أمام الاستحقاقات الحضارية، ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو الموفق والمعين.