تعرضت القيم والمفاهيم الإنسانية خلال العقود الأخيرة لعملية تجريف وتمييع واستغلال سيّء لرونق معانيها بعد تفريغها من مدلولاتها، ومحاصرتها في حيّز ضيّق، يخضع بشكل كلي لقوانين تيارية وطبقيه وايدلوجية دينية أو فكرية محددة، واختُزِل استخدامها ليلبي فقط رغبات ومصالح أممٌ من البشر استطاعت خلال غفلةٍ من الزمن تجميع عناصر الهيمنة، وتحقيق قفزة في ثلاث من مقومات الحضارة هي: العلم والمال والقوة، ولكنها افتقدت وللأسف لرابع المقومات وأهمها وهي الأخلاق.
افتتحت فجر حضارتها بحرب كونية أخرجت أسوأ ما في الإنسان من طباع وكانت أقبح ما صنعه البشر عبر التاريخ. هذه الحرب أوجعت الجميع وعمّ فسادها الكل، وغطت بالأسى ساحات المتصارعين فاندفعوا متأثرين بمواعظها ليَخطوا خارطة طريق نحو سلام شامل،صاغوا من أجله التشريعات وأَوجدوا النظم وسطّروا القوانين، وقبل أن يطبقوا ما كتبته أيديهم على خلفية الوجع استيقظت انتهازيتهم، والتفتوا نحو عالم نامي عاجز أمام آلاتهم العملاقة فتقاسموا مقدراته وخيراته بالقوة، ولكنهم انصدموا بصخرة الممانعة والرفض في تلك المجتمعات. ورغم فارق القوة إلا أن الحرب لا تعفي الطرف المنتصر من الوجع ولأن دافع الإعتداء أضعف من دافع الفدا.
فقد تعالت أصوات الرفض وازدادت حدة الصراع مع الزمن، وكان لزاماً على من صاغ قوانين السلام أن يعفي نفسه سبل الهلاك، ولأن هدف السيطرة والنفوذ محوري فقد كان لزاما عليهم ايجاد طريقةٍ غير الحرب والاحتلال المباشر تضمن سيطرتهم على كل شيء في هذا العالم، أججوا فيه الصراعات وخلقوا عوامل الانقسام ليصنعوا تجارتهم الرابحة من معاناة الضحايا ودمائهم، فارضين خياراتهم المتفوقة في كل مجالات الحياة، ذهبوا نحو هيكلة شاملة ضربت الأسس وزعزعت الثوابت والمسلّمات، وخلخلت مفاهيم القيَم لتصيغ معانيها وتحدد مقتضياتها وفقاً لتوجهاتٍ ومصالحٍ تيارية لا تمت للغة بصلة.
الإنسانية، والحرية، والحقوق، والسلام، والمساواة، وما إلى ذلك من مصطلحات فضفاضة هي في الواقع مصطلحات أفرغتها سواعد العبث من معانيها ولم يعد لها وجود إلا في أدمغة البسطاء والواقعين تحت تأثير الإعلام أو المؤطرين في حواضر التيارات، ولم يعد في الواقع العملي ما يشير لمفهوم الإنسانية المنهجي سوى مصطلحاً مطاطياً متعدد الاستخدام، سهل التوظيف، يعبّر بمفهومه المنحاز عن دعم الغرب لقضيةٍ ما! سواءً كانت هذه القضية شخصية أو قضية رأي عام.
وتشير الحرية إلى الحق في التعبير عن الرأي واتخاذ المواقف وتبني القضايا دون مساس أو مخالفة لتوجهات الغرب ومبادئه العلمانية. وتُكفل الحقوق مشروطة بالولاء، ولا سلام إلا لمنقاد أو تابع أو مطبّع، وتتطلب المساواة تكافؤً كاملاً في الثروة وقوة الردع. وصار الانتماء التيّاري وسيلة انتقال صوت المظلوم ومعيار عدالة قضيته، ولا صدى لصوت الحقيقة خارج نفوذ تيارات العولمة ولا مجال للحديث عن أي مفهوم إنساني وقيمي وأخلاقي إلا مؤطراً بمصالح وتوجهات القوى المسيطرة.
يعصف الزيف بكل شيء، وينسف فرضيات المنطق كلها. هذا ما أرادوا وقد حلت بنا للعنة!! بعملٍ دؤوب تولّى زمام أمره الإعلام الذي ظننا به الفشل، إذا به أنجح آلات الحرب التي فرضت علينا من حيث لا نعلم، وقد عمل بمهنية عالية لإنجاز ما أسند إليه وكرّس جهوده لعقود على تفريغ المفاهيم وتمييع القضايا وترويج الرذيلة وازدراء الفضيلة، سالكاً من أجل ذلك سياسة ضخ الشائعات ونشر التناقضات وزعزعة المبادئ والقيم، وتسطيح الوعي وتزييف الحقائق وقتل الهمم، حتى وصل لمرحلة يستطيع فيها وبكل خبث أن يمتدح الخيانة ويزين السقوط ويعدد أرباح الصفقة مع الشيطان، ويصفق بحماسٍ شديد للجهر بالتطبيع مع الإحتلال ونقل علاقة التعاون القائمة منذُ سنين من السر الى العلن، مبشراً وبكل ابتهاج بتتالي التهافت على الكيان الصهيوني.
هذا الإعلام الذي تهتز أركانه لموت كلب، أو راقصةٍ، أو طلاق مغنيةٍ، ولكنه لا يلتفت لأشلاء البشر المتفحمة، ولا يصغي لضجيج آلات الدمار، ولا تثير اهتمامه دماء الضحايا، ولا أنين الجرحى، ولا حشود النازحين، ولا صرخات المعتقلين ولو كانوا علماء أو مفكرين، إلا من أجل استغلال معاناتهم والمتاجرة بها.
نجح وبجدارة في إنجاز أكبر عملية تزييف عبر التأريخ، وما نراه اليوم من النكبات ما هو إلا نتيجة لجهوده المدروسة وبعناية فائقة.