كأني بالحبيب صلوات ربي عليه وهو تارك أحب أرض الله إليه، منفطر القلب، حزينا على الفراق، مفارقا بلاد الأهل والرفاق، مبتعدا عن الديار التي بكاها قبله المار عليها قائلا:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
ولو رأى هذا القائل حب المصطفى للرضية خديجة لكان علم أنه بالحب كان يلعب. فها هو يترك ديار خير نساء الجنة، يترك الديار التي استقبل فيها سلام ربه وسلام أمين الملائكة جبريل على ساكنة الجنة بلا صخب ولا نصب. يترك دار وقبر التي ليم في حبها حتى قيل له: "كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة" صحيح البخاري، رقم الحديث 3818. بل وكان يرتاع لرؤية من له صلة بها إذ يذكره خديجة. وانظر حين استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، عليه صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة»... صحيح البخاري، رقم الحديث 3821 .
وليت شعري ما الذي حملك على ترك ذكرى الحبيب والديار يا رسول الله؟ أي شيء ملأ قلبك وملك فؤادك وجعلك تهاجر دون أن تشاور؟ ما الذي قواك على استقبال أرض لا تعرفها، وتخلف أرضا عرفت أحجارها ووديانها؟
إنه رسول الله المصطفى المختار، ولد من: "قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين" سورة البقرة، الآية 131. وأول دروس هجرته صلى الله عليه وسلم هي هذا الاستسلام لأمر ربه. فلا محبة ولا تعظيم ولا انقياد ولا طاعة لأحد إلا بعد محبة الله وتعظيمه والانقياد التام لأوامره. ولا يتأتى هذا الاستسلام إلا بقوة يقين في رب العالمين. وتأمل استسلامه صلى الله عليه وسلم فعلا عند هجرته من مكة، واستسلامه قولا عند منعه من دخولها حين قال: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني" وذلك في واقعة صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة النبوية.
وخذها قاعدة: استسلام مع يقين أول سبيل لنصرة الدين.
رفيق الطريق
ولأن ربه سبحانه كان به حفيا، فقد خفف عنه ألم الفراق والهجر، فقيض له صحبة أحب أهل مكة إليه، صديقه الصديق رضي الله عنه. وهكذا يكون السير إلى الله تعالى، لابد فيه من رفقة صادقة ولو كنت من كنت. فالرفقة أنس في زمن الوحشة، وهي درع من الأعداء وحماية. ولكن يجب أن يكون فيها أخذ وعطاء كما سترى في فعل قدوة الأحباء: لما انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى الغار قال أبو بكر:
والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده"
فكان هذا عطاء أبي بكر الرضي بحماية الجسد، و قابله عطاء الرسول صلى الله عليه وسلم بتسكين روح الجسد، قال ربنا: " إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه" سورة التوبة الآية 40
وخذها قاعدة: تكامل الرفقة ودوامها يكون بالأخذ والعطاء حسا ومعنى.
العناية مع الولاية
وما أشد عناية الله بأوليائه وأصفيائه، فما أن يخلص العبد قصده لله ونصرته لدينه، ثم يتحرك في سبيل ذلك، حتى يسخر الله له من ملكه ما يعينه ويخدمه. فها هو عبد الله بن أريقط وهو على دين قومه، كان مرشد الطريق في الهجرة، بل كان يعلم تفاصيل خطتها. فقد سلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال... بل وتزداد عجبا من تدبير الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حين ترى اجتهاد عبد الله هذا في تضليل قومه عن اتباع الأثر.
وهذا سراقة بن مالك يخرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم طمعا في الدية، فيرجع يقول لمن كان في الطلب: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ههنا. فكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما. فسبحان مالك نواصي الخلائق.
ومن تمام هذه العناية كف شر الظلمة، وواقعنا على ذلك من الشاهدين، بلد تجرأ حاكموه على أولياء الله سجنا وتنكيلا فأذاقهم الله من ذاك الكأس نصيبا موفورا، فدخلوا السجون التي بنوا، وسقطوا عن الكراسي التي اشتروا.
وخذها يقينا: أخلص نيتك، وابذل طاقتك، وعلى الله حسن العناية والرعاية والتمام. وإن استطعت نصرة للدين وإلا فلا تكونن من الصادين.
الهجرة النبوية سنة نبوية وليست أحدوثة تاريخية. فيجب العناية بها فقها وتأصيلا، والاستفادة منها استنباطا وتنزيلا.
والحمد لله الذي أكرمنا بحياة خير البشر صلى الله عليه وسلم وجعلها حجة على أن هذا الدين أنزل للعمل.