أُصيب الملك بداء في أنفه فقرر حُكماء بلده أنه لا شفاء من هذا الداء إلا بجذعه؛ رضخ الملك لهذه العملية على صعوبتها، لمنع الداء من الانتشار في باقي جسده وجُذع أنفه فإذا به أضحوكة بين جلسائه..ما إن يدخل عليه أحد حتى يعجز عن كتمان ضحكته وتعجّبه !
غضب الملك؛ فقرر جدع أنوف شعبه وحكومته وأمر القابلات بجدع أنوف المواليد، ومضت هذه السُنّةُ في الشعب زمناً أنسى اهل البلدة قصة بدايتها، سنين طويلة وأجيالٌ تعاقبت ولم يرى أهلُها بشراً بأنف ، وفي ذات يوم مر على البلدة صيادٌ ضل الطريق، فأهال أهلها واضحكهم ما رأوا بشراً بأنف...!؟ ياللغرابة ويا للقبح المنظر!
أي بجاحةٍ هذه التي تجعل الشخص يتقبل أن يمشي بين الناس بشكله المقزز الذي وُلد عليه!! وارتاع الصياد من أشكالهم الغريبة..! وتساءل في نفسه وهو يفر ذعراً منهم وتلحقه حجار صبيانهم.. لماذا عجزت عقول هؤلاء عن تمييز القبيح من الحسن؟؟ أهم مجانين..!
لا ليسوا مجانينا! إنهم يمارسون حياتهم في كل مجالات الحياة بشكل طبيعي على خلاف المجانين!! كان الصياد يعتقد كما يعتقد الكثيرون اليوم أن العقل والمنطق يعملان بقوانين ثابتة تؤدي لنفس النتيجة فيستحسنان الحسن ويستقبحان القبيح وهذا الاعتقاد أو النزعة الوجدانية هي السائدة والمهيمنة على البشرية جمعاء، ولكنها تبرز في الكُتّاب والمثقفين والمشاهير المغمورين وهي في المتحزبين والمؤطرين فكريا وسياسياً أكثر رسوخاً وثباتاً،
وما هذا الجدل الصاخب والنقع المثار في الفضاء الإفتراضي وعلى أدراج المكاتب وأثير القنوات إلا نتيجةً طبيعية لهذه النزعة الوجدانية، فكل شخص، وكل كيان، وكل ذي رأي ينادي لتغليب العقل وتحكيم المنطق، وكأن المنطق قيمةً ثابتة ستؤدي حتماً لانتصار مبرراته وحججه الدامغة؛ الذي صاغها وفقاً لكينونة منطقه الذي صنعته بيئته الفكرية فالمنطق ليس قانوناً ولا معادلةً رياضية تحتمل حلاً واحداً فأغلب الظن أن منطق الفرد هو إحدى جزئيات شخصيته التي صنعتها بيئته الفكرية والثقافية والعلمية التي نما وترعرع فيها وأن ما يراه منطقياً هو ساذجاً في رأي غيره الذي تربى في بيئةٍ ثقافيةٍ أُخرى؛ ولذلك طال الجدل واستحال الوصول الى وفاق؛ ازدحمت المكاتب وانعدمت الفائدة؛ اتسع الفكر وضاقت فرص الاستقرار؛ المشهد هنا أشبه بلعبة شد الحبل الكل منهمك في تثبيت نفسه، كل طرفٍ يحرص ألا يتزحزح وألا ترتخي قبضته، لا أحد يستمع لنصائح اللقاء في الوسط وتقاسم الجائزة بدلاً من استمرار هذا الجُهد العبَثي مُتزن القوى، وكل من استطاع صياغة أفكاره واستحسن رأيا بعينه طلب من الجميع أن يستحسنوا ما استحسن وإلا فهم لا يفقهون..!
بلغةٍ إستعلائيةٍ ، ويقينيةٍ صمّاء يتخاطبون...؛ كُتَّاباً ومثقفين وحتى السياسيين مع الأسف وهم بأشد الحاجة لمرونةِ الفكر ودبلوماسية الخطاب وقعوا في عموم البلوى وانخرطوا عبثية نزاعها وما ترتب عليه من فوضية فكريةٍ هوجاء لا تؤدي الى شيءٍ إلا مزيداً من النقع المثار..؛ ورواجاً للتفاهةِ ومشاهيرها الذين وُلدوا من رحم الغفلةِ وتعهدتهم دُعابةُ التهريج.
لن تُحل أزماتنا ولن تجدي نقاشاتنا والحوارات وكل طرفٍ فيها قد وضع نتيجة مخرجاتها سلفاً بما يوافق منطقه وعقليته، وبدلاً أن نزحزح الحال، ونصل الى صيغةٍ نساهم جميعاً في وضع مضمونها ، ونصنع شيئاً ينفع حضارتنا فإننا نمضي في إدارة نزاعاتنا رأسياً وأفقيا وعلى كل الصُعُد، فنتبادل التسفيه والتحقير كأمم، ونسخر من بعضنا البعض كأديان مختلفة، وكمذاهب متناحرة داخل الدين الواحد وكأحزاب سياسية ذات رؤىً مختلفة وتوجهات متقاطعة.
كل صاحب هُدى في عين نفسه هو ضال منحرف في عين غيره، وكل فريق يتغنى بامتلاك الحقيقة ويعتقد انه الفرقة الناجية وما لا يختلف عليه اثنان ان هذه الأفكار والمعتقدات والمسلَّمات اليقينية التي حولها نطوف، ومن أجلها نختلف، وفي سبيلها نوالي أو نخاصم ونمجّد أو نحقر ونمدح أو نسفِّه موروثةٌ بترادفاتها والتضاد.
وكل فئةٍ ترى في رجالات مذهبها الأوائل روحُ قداسةٍ خجولة توزع كراماتها بين صفحات المنهج وتطل برأسها على استحياءٍ من قصص نشأتهم ونبوغهم المبكر وقدراتهم الخارقة على الحفظ والفهم والتأليف، صورةٌ مبجلةٌ لكل إمام مذهب ، وقائد حزب، حصريةٌ على مذهبه أو حزبه وأتباعه بينما هو شخص عادي وبقدرات متواضعة، وهالة تبجيل زائفة لدى الآخرين، هذا الصخب المتعجرف على كل الأصعدة ليس هو الظاهرة الصحية التي يعتقدها خبراء الاجتماع أداةً لبناء الحضارات لأنها لن تؤدي أبداً إلى نتيجيةٍ حقيقية إذ لا قابلية للاختلاف ولا انتصار طرف واحد على الجميع وتفرده بكعكة الفوز ممكنا على الأقل في الزمن القريب لأن وسائل التدافع مستمرةٌ في التكافؤ.
بل أصبح الأضيق فكراً هو الأعلى صوت والأكثر ضجيجاً وشهرة ؛ بهتت أصوات المتخصصين والعلماء والأكاديميين وأبرق صدى المهرجين والمنتحلين والمزِّورين وأنصاف المثقفين وربح تجار التفاهة وصُنّاع الأوهام.