في ظل الحرب الهمجية على غزة العزّة، يسيطر علينا جميعًا، شعور الذنب النابع من قناعة تقصيرنا في حق أهلنا هناك وتخاذلنا تجاههم، وكأننا لا يشفي صدورنا إلا أن نكون هناك معهم، نعاني ما يعانونه، ونحتضن أطفالهم الذين تُحفر صورهم في قلوبنا قبل عقولنا، ونعانق كل مكلوم عناقًا طويلاً تختصر دموعه مسافات لا يستطيع للتعبير أن يقطعها. ولكني اليوم أكتب لأننا "كمدنيين"، لم، ولن نخذلهم. فما أراه حولي، وحول العالم من محاولات الدعم بكل الطرق، أقل ما يُقال عنها أنها انتفاضة قلوب، وعقول، وأبدان الأمّة، وتداعي الجسد بالسهر والحُمّى لعضوٍ غالٍ منه! ليس الهدف أن ننفي التقصير كليةً، ولا أن يكتفي أيٍ منا بأي شيءٍ فعله. بل هي معذرة إلى الله ﷻ، واعتذار لأهلنا هناك بأننا ما تخاذلنا، وأننا نفعل ما هو في أيادينا.
أنواع من المُنكر
إن الجرائم التي نعاينها اليوم على مدار الساعة، ليست كلها كتلة واحدة لا يمكن مواجهتها. فبالطبع نعاين أبشع جرائم القتل، ولكننا نعاين أيضًا جرائم التهجير، والكذب الإعلامي، وكتم صوت الحقيقة عن طريق قطع وسائل التواصل، ونعاين صمت حكومات تجاه كل ذلك، ودعم حكومات أخرى بلا حدود لتلك المجازر. وهنا نجد أن ليست كل المعارك تجري في ساحة القتال خارج نطاق تحكّمنا. بل أن الكثير منها يجري في ملاعبنا نحن كمدنيين، وكمواطنين في البلاد العربية، والغربية (التي تُحاك فيها تلك الحرب، ويُصنع الدعم لها). إذا نظرنا لأمر من هذا المنظور، سنجد أن العالم قد انتفض بكل ما يملك من أدوات لتغيير هذا المُنكر، أو جزءٌ منه – كلٌ قدر استطاعته.
من رأى منكم منكرًا، فليغيّره
عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم
قد يتراءى لنا أننا لم نفعل شيئًا لدعم، وولاية أهلنا في فلسطين الحرة. لكن ببعض الإنصاف، سنجد أن معظمنا انبرى باليد، واللسان، والقلب لفعل كل ما يمكنه فعله.
خرجت الأجساد في مسيرات حاشدة في كل بلا الدنيا في تزامن غير مشهود من قبل، وعلت الحناجر بالمطالبـ، والاستنكار، والاستهجان. تقاسم الناس وقتهم بين العمل، ومتابعة الأخبار، والحراك الشعبي، وأصبحت غزة هي شغلنا الشاغل بلا توانٍ أو تردد. فقد البعض وظائفهم في بعض الدول جراء ذلك، وانبرى محامون، وحقوقيون للدفاع عنهم وتوعية الجماهير حول حقوقهم.
- وُقعت العرائض، وتمت مراسلات لكل الكيانات المعنية في الحكومات، والمنظمات في جميع أنحاء العالم.
- خرج شباب أتقنوا التكنولوجيا، والترجمة، والتصميم البصري، وأدوات التواصل الاجتماعي، والتصوير، ومعالجة الفيديو، وغير ذلك من أدوات، وانبروا لتوضيح الحقائق، ومنع تزييف التاريخ، ومجابهة عتاة الإعلاميين المضللين بكفاءة، ومهنية لم نرها من قبل! فأنتجوا لنا مكتبة من الإبداع محمّلة بكل فنون الردّ على أعتى الأكاذيب.
- سعى كلٌ في تخصصه لاقتراح بدائل لكل ما قُطع عن أهلنا هناك. فهناك من قدّم طرق لإشعال النار بدون أدوات، أو طرق استخدام أقل القليل من الوقود لتوفير أكبر قدر من الطاقة. كما انتفضوا لمطالبة شركات الاتصال بتوفير خدمات الانترنت داخل القطاع، من خارجه. وخارج القطاع، تباروا في إيجاد طرق لتقليل الحجب عن المنشورات على مواقع التواصل، وفعل كل ما يمكن فعله لإيصال أصوات أهلنا في قطاع غزّة، وكشف الجرائم التي تُنتهك في حقهم.
- تبرّع الناس على اختلاف قدراتهم المادية بما يستطيعون لدعم جهود الإمدادات الإنسانية. كما حشدوا، وطالبوا الحكومات بتيسير دخولها لقطاع غزّة.
- عادت موجات مقاطعة كل المنتجات، والكيانات التي تدعم الاحتلال، والحرب الغاشمة على غزّة. ولم يتوان الناس لدرجة أن من يدخل لأي من المطاعم التي تتم مقاطعتها، يتم النظر إليه على أنه خائن بتهمة خيانة عُظمى.
- أما عن حالة القلوب، فحدّث ولا حرج! فقد التهبت المشاعر، واعتُصرت القلوب، وعمّ الحزن بيوتنا، وعقولنا، وأصبحنا نخجل من الانخراط في أي شيء غير العمل الرسمي أو الدراسة، والذين يقوم بهما الناس بأنفس ثقيلة، وعقول مُشتتة، وقلوب تسكنها غزّة. وأصبح من السائد لوم الناس على حتى مشاهدة شيء ترفيهي. بل أصبح الكثير منا يسعى لأن يكون مؤمنًا، ومسلمًا، وعابدًا أفضل قدر المُستطاع لكيلا يكون سببًا في تأخير نصر أهلنا هناك!
- كما ألغيت فعاليات، وبرامج، وأعتذر مشاهير عن حفلات، ومشاركات مسرحية. فنحن جميعًا في حالة حداد عام.
وكل هذا لا يُستهان به بأي شكل من الأشكال. فليس كل الدعم عسكري، وليس كل الحراك في قلب غزّة. وليس هذا بمنّ على أهلنا هناك. بل هم يمنون علينا بكل ما حققوه فينا، وفي العالم من نتائج أبدية.
تغييرات، ونتائج أبدية
إذا سئل سائل عن نتائج كل هذا، وعن جدواه، سنجد أن هناك نتائج أبدية لم يمكن عكس تأثيرها.
- لقد سقطت أسطورة "العالم الغربي المتحضر الحر".
لا يمكن أن نسمح لأحد بعد الآن أن يتعالى أخلاقيًا بتحضّر الغرب، وسيادة الحريات فيه. فقد نافي الغرب كل قيم الإنسانية التي يتشدّق بها لدعم الاحتلال، والاستيطان، وسحق إرادة الشعوب، وتكميم الأفواه، والحريات، وتمرير أفظع الجرائم، وليس فقط غضّ الطرف عنها. يقلل هذا من الانبهار بالغرب، بل ويخرسه عن التعالي بالقيم بعد الآن، ويثير مشاعر الاشمئزاز تجاه حكوماته. كل هذا سينعكس في اختيارات الناس، وسلوكياتها، بل وسيدعم مشاعرها، وهويتها القومية.
- انكشفت حكومات العالم أمام شعوبها، وأصبحت كل الأمور، والتوقعات واضحة.
ولا أتحدث فقط عن الحكومات التي لا يُرجى منها شيئًا، بل أيضًا الحكومات التي تدّعي الديمقراطية، والتمثيل الشعبي. فقد فهمنا أن هذه الديمقراطية تعني فقط أن يُسمح للشعوب بفعل ما تريده من تظاهر، وتوقيع عرائض، وغيره، بينما تفعل الحكومات ما تريده أيضًا. سيغيّر هذا سلوك الناخب في تلك الدول، ويسمح بثقافة سياسية مختلفة تمامًا. كما أن هذا الأمر قد أسقط سياسيين كثر بالفعل.
فرئيس الوزراء الكندي على سبيل المثال والذي كان محبوبًا من الجالية المسلمة، يُقابل في الطريق، وفي المحافل بالسبّ، والإهانة، بل ويتم رفض دخوله لبعض المساجد، والمؤسسات الدينية بسبب الغضب الشعبي الذي تمارسه الجماهير على تلك المؤسسات. وحتى في البلدان التي يتم فيها قمع التظاهر، أو منع رفع الأعلام، أو اعتقال المتظاهرين سواء في الشرق أو الغرب، فتح هذا ملف الحقوق، والحريات فيها وأحرج الدول التي تدعي الحرية أمام مواطنيها قبل أن يكون أمام العالم. لقد غيّرت غزّة وجه السياسة العالمية.
- عادت القضية الفلسطينية بقوة إلى الساحة العالمية.
لا يعني هذا تهميش القضايا المهمة الأخرى لانتهاك حقوق الإنسان في العديد من دول الجوار، والعالم. لكن ما أعنيه هو تجييش جيل كامل كنا نظن أنه لن يعرف أي شيء عن القضية الفلسطينية وخصوصًا من تربى في الغرب. وكنا سنحتاج لعمل المستحيل فقط لجذب انتباههم. لكن، وبدون مجهود منا، وبفضل المجازر البشعة المرتكبة في حق أهلنا في غزّة، تم حفر التاريخ، والحاضر، والمستقبل في وجدان، وعقول أبناء جيل لم يكن يعرف شيئًا عن فلسطين. إن خروج المسلم، وغير المسلم، والكبير، والصغير إلى الساحات، وإلى الإعلام وبحشود غير مسبوقة، لهو معجزة إلهية بكل المقاييس يرتد فيها السحر على الساحر.
- كما تحررت ضمائرنا، وتغيرت نظرتنا لأنفسنا، وللآخرين. أصبحنا نرى العالم بشكل أوضح.
وهذه فقط بعض النتائج التي يمكن حصرها. وما لا يمكن حصره، على أصعدة كثيرة، أكبر.
عقدة ذنب الناجي النجاة Survivor’s Guilt
ومع كل هذا، ومن أجل طوفان من الحب تجاه أهلنا في غزّة، وتقديرًا لتضحياتهم، مازال الكثير منا يشعر بالذنب بسبب قناعة التقصير والخذلان. ومن جهة أخرى، يعاين بعضنا ما يُسمى بعقدة الناجي. وتعني شعور البعض بالذنب لأنه مازال على قيد الحياة، أو لأن لديه طعام، ومسكن آمن، أو لأن أبناءه ينعمون بحياة طبيعية بينما أهلنا في غزة ليسوا كذلك. وهذه القناعات لا مكان لها في قناعاتنا الإيمانية. فالله ﷻ يتلطف بنا، ويربط على قلوبنا المخلوعة بقوله "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا"، وقوله "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا". فكلٌ يعمل وفق ما لديه من سعة، وما آتاه الله ﷻ من أدوات، وسياق، وحريات، وعلم، ومهارات. ونحن نؤمن بقضائه، وقدره، ونؤمن أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا. فلا مكان لمثل هذه المشاعر في مثل هذه الأوقات. بل نوظّف طاقاتنا، لفعل ما هو في سعتنا، ووفق ما آتانا الله ﷻ.
نسأل الله ﷻ أن يفرغ على غزّة سلامًا، وصبرًا، وأن يربط على قلوب أهلها، ويتقبل شهداءها، حتى يجمع الأحبّة بأحبّتهم يوم نلقاه.
وآخر ما أقول:
"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"
[سورة البقرة:286]