الرواية أو السردية من أرقى أنواع الأدب، إنه شيء يصيبنا بالدهشة كون أنها تكشف لنا زوايا النفوس، وتعطينا صورة موازية للواقع، إنها تخلق مجتمعات كاملة بخيرها وشرها وبؤسها وفرحها وتناقضها، بل قد تكون الخصيصة المميزة لهذا الجنس الأدبي هو حكي الواقع المعيش لا المتعالي الذي يبحث عن حياة مثالية.
والرواية دوما تنحاز إلى صف من يمكن أن نسميهم (بالإنسان الأصيل) وهنا تكمن فرادة هذا الجنس من الأدب لعكسه الإنسان الأصيل أو البسيط أو العادي في مفهوم الحضارة اليوم؛ فتعكس الرواية آلام وعذابات الروح وما يجده الفرد في حياته ويعكس حياته الجوانية وتفاصيل قد لا تعني أي شيء في الواقع المجتمعي ويجعل من الرؤساء والحكام والملوك والزخارف المادية هامشا لا معنى له،
"في روايات دوستويفسكي تتجلى النفس الإنسانية في عذاباتها الهائلة، وتتعاظم المشكلات والأحداث الداخلية بحيث يبدو العالم الخارجي بكل ما فيه من ثراء وفقر ودولة ومحاكم ونجاحات وإخفاقات؛ وهما على هامش الواقع".[1]
ويؤكد "علي عزت" أن هذا الأمر عام في كل رواية فيقول: "في الأدب حجم البطل ليس في حجم أهميته الاجتماعية وإنما بحجم القضية الأخلاقية التي يحملها البطل… فإن الملك في الرواية والمسرحية يمكن أن يكون شخصية غير هامة والخادم بطلا".[2]
كنت دوما أقول: أن الانسان هو رواية معقدة، لأن الرواية أفضل تعبير للإنسان، ويمكن أن نقول أن الرواية هي الحياة كما يؤسس لذلك "الطيب بوعزة" في كتابه "ماهية الرواية".
إذن فالرواية تعتمد على فرادة الكاتب وعلمه وخبراته وفهمه لنفسه وكشفه لغموض الحياة وبحثه عن الخلاص الإنساني ومصيره، والرواية هنا حامل ثقافي وفكري يضمن حفظ التاريخ والملامح والأفكار جيلا بعد جيل.
ثمة جدل هاهنا بين إقحام الكاتب إيدلوجياته وتوجهاته الفكرية وانحيازاته الإيمانية في الرواية وبين أن يخلص الفن من إيديولوجياته ليصبح الفن للفن.
بعيدا عن مناقشة هذا الجدل، أرى أن الإنتاج الإبداعي فعل ينبجس غالبا من اللاوعي من دون مقدمات لا من قصدية الوعي، فالسمة المميزة للعمل الروائي الجيد التلقائية والعفوية.
والطريف هنا ثمة سؤال تبلور وهو سابق لجدلية الأيديولوجيا والفن ومؤسس جيد لمناقشته وهو: كيف تكتب الرواية؟
والإنسان كل لا يتجزأ فهو عندما يكتب يسجل وجهة نظره وينطلق من أرضية فكره ودوافعه وإيمانه الكامن فيه وهنا يكمن دور العفوية التلقائية، والذين يقحمون أفكارهم بطريقة فجة واعية يحولون السردية إلى مقالة فكرية لا عمل إبداعي والفرق دقيق بينهما.
إن الرواية أفضل وسيلة لتوصيل رؤى وأفكار، وبناء نظم معرفية وقيمية، فالرواية "تغير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، والأسلوب الذي نتكلم به عنه، وبالتالي تغير العالم نفسه".[3]
"وأنا أعني بالطبع الكتاب الذين يؤمنون أن الأدب هو فن موجه لتحسين العالم".[4]
وقد تؤثر الروايات في الفعل السياسي فقد أعتبر الطيب بوعزة رواية كوخ العم توم لهاريت ستو "في التاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية أحد العوامل المساهمة في ثورتها".[5]
وللكاتب آليات وحنكة يستطيع أن يمرر بها أفكاره وفكرته عبر سطور روايته التي توحد معها القارئ "الوحدة الفنية" وكون شعوره مع شخوصها وهنا تكمن عبقرية الراوي.
"ومما يسهل عملية تمرير الأفكار عبر العمل الروائي أن الكاتب يستطيع التحكم في شخصيات وأحداث روايته، فيعمد إلى خلق عناصر قبول الأفكار وترويجها بصناعة البيئة الصالحة لها وإيجاد الشخصيات الملائمة والأحداث المناسبة".[6]
وهذا الربط بين الرواية والرؤية إلى العالم، والبناء الفلسفي يمكن سبره واستخلاصه من أغلب الروايات.
تأسيسا على ما سبق لابد من أن ينطلق القارئ من حتمية أن يحمل الأدب الروائي حمولة فكرية ما تسربت إلى العمل من لاوعي الكاتب وانحاز لها؛ هذه الفكرة تجعلنا نستبدل عدسة المتعة المحضة التي نرتديها عندما نقرأ الرواية بعدسة نقدية فاحصة لا تفقدنا متعة الفن.