ظاهرة جديدة وغريبة تجتاح اليوم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، عقب حادث قتل عنصري لمواطن أمريكي أسود ذو أصول إفريقية، وهو جورج فلويد، هذه الظاهرة سببها ليس الإحتجاجات التي اجتاحت أمريكا وأوروبا تضامنا مع المقتول، وإنما راجعة إلى إقدام البعض على إسقاط واقلاع تماثيل للرموز التاريخية للعنصرية والاستعباد والظلم الذي مارسته هذه الرموز، هذه الظاهرة وكأنها غسيل وتكفير عن ذنوب الماضي وهي اعتراف ضمني وصريح بذنب الآباء والأجداد، وبالتالي وكأن الأحفاد يريدون أن يكفروا ويغسلوا هذا الغسيل الأسود، لهذه الحقبة السوداء من تاريخ أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
فالتاريخ لا يرحم ولا يحابي أحد، فهو أجبر الذات الظالمة على الإعتراف والتنكر لهذا الماضي الأسود من خلال هؤلاء الأحفاد، ونحن نثمن هذا، ونطالب بمزيد من الإنصاف والإعتراف، والتعويض للشعوب المظلومة عن نهب ثرواتها وقتل شعوبها وتشريد واستئصال لهذه الشعوب.
فكما الثورة اليوم على هذه التماثيل والرموز التي كانت يوما ما مفخرة لتاريخ أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كانوا أبطالا في نظرهم في فترة من الفترات، نطالب بالتعويض، فالتاريخ جاء لينصف ويضع الأشياء في مكانها الصحيح ويسمى الأسماء بمسمياتها الصحيحة والحقيقية.
العنصرية جزء أصيل في التاريخ الأوروبي والأمريكي
لكي نفهم أن العنصرية جزء أصيل من تاريخ أوروبا الغربية العلمانية الحديثة، وكذا نظيرتها الولايات المتحدة الأمريكية، لكي نفهم هذا كما أشار إلى ذلك النازي ألفريد روزنبرج أثناء محاكمته في نورمبرج بقوله: "إن العنصرية جزء أصيل من الحضارة الغربية الحديثة وأكد لقضاته أن هناك علاقة عضوية بين العنصرية والإستعمار، وأنه عثر على لفظة سوبرمان في كتاب عن حياة اللورد كتشنر، وهو الرجل الذي قهر العالم، كما أكد أنه صادف عبارة العنصر السيد في مؤلفات عالم الأجناس الأمريكي ماديسون جرانت. "
لكي نفهم هذه الحقيقة أن العنصرية جزء أصيل في حضارة هؤلاء، لابد أن نستحضر الحقيقة التالية: ففي غياب البعد الروحي وفصل الروح عن الجسد، في غياب البعد المعنوي للحياة والإنسان، ونفي أية غاية وقصدية عليا وسامية للحياة والإنسان، ومحاصرة الإنسان والحياة في بعدها المادي فقط، ونفي لأية قوة خارجية تقف وراء حركة الإنسان والحياة في غياب كل هذه الروابط والإعتقادات تسقط الإنسان فيخلد إلى الأرض، ليسلم نفسه كما يزعم الى الطبيعة وينفي عن نفسه أية قدسية، يحتكم إلى القانون الطبيعي المادي، يعني يسلم نفسه الى داروين وإلى نظرية النشوء والإرتقاء والانتخاب الطبيعي ويخضع نفسه إلى قانون الغاب، قانون القوة.
فنظرية داروين هي القناع الأيديولوجي التبريري للرأسمالية الليبرالية، فمنذ نشأتها في القرن السادس عشر الميلادي، وهي تبحث عن قناع ايديولوجي تبرر به جرائمها عبر العالم لتجد في الداروينية هذا الغطاء الأيديولوجي.
فالداروينية عقيدة الرأسمالية الليبرالية، بها تبرر عدم المساواة الموجودة في الرأسمالية والتفاوتات الطبقية والفردية، فمن هذا المنطلق وهذا المنطق الطبيعي في نظرية داروين بنى الغرب مجموعة من أفكاره العنصرية تجاه الآخر، تجاه الثقافات الأخرى والشعوب والأعراق الأخرى، حيث وضع نفسه في أعلى الأعراق، وفي أعلى الثقافات وبالتالي سيد العالم إن لم نقل إله العالم، وتأتي الأعراق الأخرى والثقافات الأخرى في المراتب الدونية للغرب، وجعل من هذا التمييز كما هو معلوم تبرير للإستعمار، وعبأ الرجل الأبيض بهذه الأفكار.
يقول د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله: إن عنصرية عصر التحديث تبدأ مع الفكر الإنساني الهيوماني الغربي ذاته، فهذا الفكر الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة؛ جعل الإنسان موضع الكمون ووضعه في مركز الكون دون استخلاف من الإله.
ولكن هذه الإنسانية انحدرت بسبب إطارها الكموني الطبيعي المادي إلى الإمبريالية، فبدلاً من أن يضع الإنسان الغربي الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز، ووضع بقية البشر مع الطبيعة والمادة في الهامش، وبدلاً أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض، وبدلاً من الإيمان بأسبقية الإنسان على الطبيعة، أصبحت المسألة هي أسبقية الإنسان الأبيض على الطبيعة وبقية البشر.
وترجع هذه العنصرية ليس فقط إلى القرن التاسع عشر مع ميلاد نظرية داروين، ولكن هذه العنصرية بدأت مع عصر النهضة بمعنى أن العنصرية جزء من النظرة المعرفية العلمانية الغربية. يقول د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله:"....أي منذ عصر النهضة في الغرب وبداية مشروع التحديث، ومعنى هذا أن العنصرية ليست مرتبطة بالإستعمار وإنما بالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والمشروع الإنساني الغربي التحديثي، ولقد كان روزنبرج محقا في أقواله وقد أشرنا إلى المركزية التي منحها الإنسان الغربي لنفسه منذ عصر النهضة باعتباره كائنا ماديا متفوقا على الآخرين، وكيف تصاعد هذا الإتجاه حتى وصل الذروة في القرن التاسع عشر حين أصبحت نظرية العنصرية أحد الأطر المرجعية الأساسية للإنسان الغربي.
" وهذا ما أدى الى ظهور علماء ومفكرين يساندون ويبررون هذه العنصرية وتفوق الرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي. ومن هؤلاء العلماء جورج دي لابوج الذي أقر وأكد أن الجنس البشري لا يختلف عن الجنس الحيواني وأن كليهما ينتمي إلى عالم الطبيعة، ولذا دعا إلى أخلاقيات جديدة مبنية على الإنتخاب الطبيعي وعلى الصراع الدائم والبقاء للأصلح بدلاً من أخلاق المسيحية.
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله على أن جورج دي لابوج لم يكن وحده في هذا التوجه بل هناك علماء آخرون يقول: " ولم يكن جورج دي لابوج وحده ضالعا في ترويج مثل هذه الأفكار إذ كان يشاركه فيها جو بينو وهيبوليت وجوستاف لوبون وادموند درومون وقد روج لهذه الأفكار في ألمانيا أوتو امون وارنست هايكل واوتو فينجر، وهوتسون تشامبرلين الإنجليزي الأصل. وفي إنجلترا هناك ادواردز، والمفكر توماس ارنولد وجيمس هنت مؤسس جمعية لندن للأنثروبولوجيا الذي ذهب إلى أن الطريقة الوحيدة لجعل علم الأنتروبولوجيا أكثر حيادية هو تحريرة من القيم الأخلاقية الإنسانية
وأصبح الإنسان الغربي يتحرك في إطار شعارات عرقية وحضارية صريحة مثل عبء الرجل الأبيض(انجلترا) والمهمة الحضارية ( في فرنسا) والقدر المحتوم ( في الولايات المتحدة الأمريكية) وتفوق الذات العضوية القومية (في كل مكان في العالم الغربي).
من خلال هذه الإستشهادات يتبين كما قال ألفريد روزنبرج أن العنصرية جزء أصيل في الحضارة الغربية، وأن النظام الرأسمالي الليبرالي الذي يحكم الحياة والإنسان في الغرب منذ عصر النهضة فرض اعتناق النظرية الداروينية التي هي عقيدة الرأسمالية الليبرالية القائمة على العنصرية والإيمان بعدم المساواة، وتفوق عنصر طبيعي على عنصر آخر.
فانسلاخ الغرب عن المسيحية والهبوط إلى الأسفل إلى القانون الطبيعي المادي الوضعي وبالذات إلى الداروينية هو من أكسبه هذا المبدأ الحيواني البقاء للأقوى والأصلح. وبالتالي النظر إلى الشعوب والثقافات الغير الأوروبية والغربية عامة نظرة عنصرية دونية.