خلق الله الإنسان فسواه، فعدله ونفخ فيه من روحه واصطفاه، وكرمه عن سائر مخلوقاته، وجعله خليفةً له في الأرض، وألقى على عاتقه الأمانة تاركاً له حرية التصرف، إما شاكراً قائماً بها مؤدياً حقها، وإما كفوراً، مضيّعاً لها مقصّراً في أدائها، ثم استمر حيناً من الدهر يذكره بمبادئها على فترات متباينة من التأريخ عبر رسل لا يملكون سوى الحقيقة والبيان.
أي وسيلة للإكراه، كي يردوه إلى جادة الصواب ويعدّلون له مسار اختياره، والذي طالما انحرف به نحو الضلال، كلما ابتعد عن زمن النبوة و الرسالة، حتى وصل إلى المستوى الحضاري الذي يمكّنه من القدرة على التفاعل مع رسالة أودع الله فيها سر البقاء، فكانت صالحة لكل زمان ومكان، ليفتح مكنونات خطابها وفقاً للأرضية التاريخية التي يقف عليها، ومعطياتها الفكرية، والعلمية، والمعرفية، واختتم بها الرسالات...
هذا المستوى الحضاري الذي توقف عنده الوحي، هو المستوى الذي وصلت عنده حرية الإنسان حالة التقلص المتسارع، لصالح الأنظمة والتشريعات، والمقومات الحضارية، ومازالت حرية الإنسان تتقلص باتساع المظاهر الحضارية، وتزداد القيود بازدياد الوسائل دون أن يشعر بأعراض التسيير أو علامات الإكراه، ربما أحسّ بذلك لو نظر نحو الماضي ليرى سلفه القديم كيف عاش حياة الحرية، والتفاعل المباشر مع الطبيعة مؤثراً فيها، ومتأثراً بها.
وتابع تدحرج الحرية وانكماشها عبر التأريخ، تحركها العلاقة العكسية بين النمو السكاني، ورقعة المصالح والخيرات الثابتة على الأرض، وكيف ضل يتنازل عن أجزاء حريته لصالح إرساء أنظمة تُجمّع شتاته، وتنظم علاقاته، وتمنحه بعض الاستقرار، وتظمن له بعض المصالح حتى تعاظمت الأنظمة وتنامى الإستبداد وضربت القيود وفتحت السجون والثكنات..!
وضاعت أصوات المصلحين بين صيحات حماس الطغاة، وعويل المظلومين، وبلغت زاوية الانحراف حد قتل الأنبياء والمصلحين، وعم الفساد وهو الولد الشرعي للاستبداد حياة البشر، وتشكلت معسكرات التدافع وتساوت احتمالية الانتصار أو الهزيمة وصار منطق التشريع السماوي (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) [سورة النساء الآية: 104]
ومع استمرار الاصطدام المؤلم كانت تتنامى فكرة تغيير أدوات الصراع، وظلت تتطور إلى أن وصلت إليه إلى ما هي عليه الآن، بحلتها الاقتصادية والفكرية المجردة، بقيود ناعمة لا يراها ولا تثير حفيظته، ولكنها تتحكم به وتحد من اختياراته، في نطاقات تخرجه أحيانا عن نطاق قناعاته.
لقد أصبح هذا المخلوق الذي كرّمه الله، ومنحه الحرية وخيّره بين الكفر والإيمان، يُغلّف آراءه وأفكاره غشاوات تتناسب مع بيئته أو بالأصح مع القيود التي ضُربت عليه، ونقلته من فضاء الإختيار الى بوتقة التسيير القسري بالعنف والإكراه أو المزخرف بالمصالح المادية والمعنوية في أحسن الحالات، ولم يعد بإمكانه الهجرة بدينه، ومبادئه، بتفرده، بهمومه وأحزانه..
بل لم يعد بإمكانه الحفاظ على معتقداته الخفية فقد أصبح عقله ميدان صراع مفتوح لكل الأفكار يصبح مؤمنا ويمسي كافراً أو العكس، لم يعد بإمكانه السفر إلى حيث يرميه الحنين دون أن يخشى اللوائح والقوانين المفروضة عليه كما كان متاحاً في ماضي الزمن...
أيضاً لم تعد سعة الأرض وسيلة آمنة للفرار من شر أو هجرا لفكر أو شعور، فقد أصبح يصطحب العالم بكل مآسيه في كل حلٍ وترحال، ولا مفر له من سجون يعيش فيها وتسكن أعماقه!