إن المأزق الحضاري الذي يواجه العقلية العربية الاسلامية مزدوج التحدي، فهو ليس فقط عدم إنتاج (كوبي) حضارية بل تجلي إبداعي مختلف، لابد فيه من المرور بالمحطات الفكرية والتعرف عليها حتى يمكن تجاوزها، بمعنى إن الذي يريد أن يتقدم بعلاج مناسب لمرض الإيدز، يجب أن يلم بكل تقنيات المعالجة، حتى يستطيع الالتفات عليها وتجاوزها وإبداع ماهو خير منها جميعاً، والذي يريد أن يتقدم بفكر راقي إنساني لابد له من المرور بدروب المعاناة الفكرية كلها وهضم ما مرّ، كي يستطيع التفوق والتقدم بما هو أفضل.
والإمام الغزالي أبو حامد له كلام جميل في هذا الصدد في كتابه المنقذ من الضلال (1) عندما افترض أنه حتى يمكن أن يرد على أي مدرسة فكرية، لابد لصاحبها من خوض العلم حتى نهايته، ثم الزيادة فيه حتى يمكن أن يرد بغير حماقة ولا تهور، وهو الذي طبقه عملياً الغزالي في ردوده على المناطقة والفلاسفة والمتكلمين وأهل الباطن وسواهم من الفرق.
وأتذكر عندما كنت في شمال ألمانيا جرت محادثة بيني وبين البروفيسور (بوركهارت) الذي كنت أعمل عنده، وكانت مفاجأة له أنني تكلمت في القضايا الفلسفية خارج النطاق المهني، قلت له: إن مهمتنا هي في تجاوزكم وليس اللحاق بكم!
ابتسم وقال هذا شيء طيب ولكن لا أظن أنكم ستنجزون هذا في جيلنا الحالي. قلت له: هذا حق ولكن دورات الحضارة شيء آخر، وأنصحك بقراءة كتاب لفيلسوف ألماني (وهنا حدق في عندما سمع ألماني) اسمه أوسفالد شبنجلر (Oswald Spengler) الذي كتب عن تدهور الغرب (2) ولا يعني هذا أن الذي سيصعد سيكون العالم العربي.
ولكن الحقيقة الخالدة تقول، إن كل ما في الوجود من مخلوقات يخضع للقانون الرباعي: الولادة والنمو ثم الانحلال والفناء، ولن يخرج الغرب عن هذا القانون.
وحين حصلت ضجة الاستنساخ في الخلائق كان تعليقي أن الاستنساخ ليس خلقاً ولا بعثاً! فهو ليس خلقاً للإنسان، كما يأتي في بعض التعبيرات، عن يوم الخلق الثامن، فالخلق والأمر لله، كما أنه ليس بعث الإنسان في قيامة قبل القيامة، ولكنه تقدم علمي عادي، لأن الكون مركب على قاعدة (يزيد في الخلق ما يشاء) وقاعدة (ويخلق ما لا تعلمون) وكل هول الصدمة سببه أننا لا نشارك في العلم.
فتيار العلم اليوم مثل الرياح الموسمية غربي شمالي، والصقيع الفكري عندنا جنوبي شرقي، في صورة مقلوبة جداً لمناخ العالم! فنحن لانشارك في العلم وصناعته، لأننا لم نصنع العالم الحالي، والذي يفهم العالم يتسخر له، والذي لا يفهم يتحول إلى عالم المسخرات.
لن تراعوا.. جاء في السيرة أن أهل المدينة استيقظوا في إحدى الليالي على أصوات نكرة وجلبة شديدة، فأصيبوا بالذعر، ولكنهم عندما بدأوا يفتحون أبوابهم لمعرفة الخبر، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راجع إليهم على ظهر فرس يقول لهم لن تراعوا.. وحول كل ضجة علمية نحتاج من يستطلع الخبر يهدئ روع المسلمين.
قصة العالم والأمير
نحن باختصار غائبون عن العالم الذي نعيش فيه، بل نحن مرعوبون والرعب مصدره الجهل، كما يروى عن العالم الذي أراد أن يشرح للأمير الفرق بين العلم والجهل (3) وأن الأول يورث الطمأنينة والثقة والإيجابية والنشاط، والثاني يورث الرعب والارتباك وقباحة التصرفات، فأخبر الأمير أنه في جلسته المعتادة ليلاً، سوف يرمي من على السطح إلى الأرض بأواني نحاسية ثقيلة الوزن، فلما هدأ القوم في المجلس فشربوا وأكلوا وارتخوا وطاب المجلس؛ عمد العالم فألقى بالقدور النحاسية دفعة واحدة، فكان لها صوت مجلجل عظيم في هدوء الليل، فارتعب الناس وقاموا يتدافعون؛ وكاد أن يقتل بعضهم بعضاً وطاً من شدة الرعب.
الوحيد الذي لم يضطرب ولم يتحرك من مجلسه هو الأمير الذي كان يراقب رعب القوم بابتسامة هادئة، والعالم المتفرج من فوق السطح!!