ليس فقط أهل الفنِّ من يسعى للنجومية! بل انتهى بعض الكتَّاب العرب، من الذين مردوا على النفاق الرخيص على حساب دماء ومبادئ الأمة، وخلصوا إلى أنهم لن ينالوا من الشهرة بنصيب، إلا بعد تقديم القربان للمتنفذين على الساحة الدولية من أعداء المبادئ وخصوم القيم! فعمدوا إلى جلد الذات وصفع الأمة التي ينتسبون إليها، ووصفها بالجهل والتخلف وبأقذع الألفاظ، يتباكى آحادهم على تلك الأمة، لكي لا يحسَب في صف أعدائها!
أيقن هؤلاء المنهزمين فكرياً ونفسياً، أن ذبح الثوابت هو أقصر الطرق إلى أن يحسبوا على الكتَّاب العصرانيين المتنورين، الذين يرضى عنهم الشرق والغرب، وثوابت الأمة ومنظومتها القيمية تنادي عليهم باستنكار وذهول: إلى أين أنتم ذاهبون لكن أخطأتِ إذ ناديتِ حياً!
ثم عمد أسيادُ هذا الدعيِّ للتنوير من موظفي السفارات والملحقات الثقافية، فلقنوه أن لا تسأم من ترديد هذه المفردات في إنشائك: الشفافية، الديمقراطية، التنويرية، الظلامية، مؤمنون بلا حدود، ملحدون بلا حدود، تراكمات العصور، المتكلسون، المتحجرون، المعاصرة، العولمة، التخلف، الاستبدادية، النقابية، الإرهابية، السوقية، التكاملية، التركيبية، المؤسساتية، الكرنفالية، الفاشية، الرجعية، التقدمية، الليبرالية، اليمينية، اليسارية، البراغماتية، الميكافيلية، المثلية الجنسية، الحرية الشخصية، الشوفينية، البنائية، الحداثة، الداعشية، الكتب الصفراء ... واكتب فيها من الطلاسم ما شئت فليس ثمَّة من يجيد النقد ويميِّز الغثَّ من السمين.
ولا بد أيها الكاتب النحرير، أن تثبت للناس بأنك شبه أميٍّ في اللغة العربية أو كأنك أمي، فتدرج في كلماتك من اللغات الأجنبية ما لذَّ وطاب من المصطلحات والكلمات! فأنت تعلم عشق الناس للتحدث بأتكيت الغرب ولغاته الأجنبية، وتعلم زهدهم بالعربية، فدورة الزمان قد تغيرت! ولا بدمن تقديم الفتات بلون العسجد والفضة، وطعم المنِّ والعسل؛ ولو كان في الأصل مرآة من الخلف قد اصطبغت بالسواد، وعلقماً مرَّاً صعب المذاق!
وخلاصة القول لكي تكون صاحب عقلية تنويرية، ورؤية استراتيجية، اجعل لسانك شبه أبكم في العربية، وقدم لهم شعر التفعيلة الزجاجي الرخيص، وانتقد بشدة الشعر العمودي التقليدي كونه من التراث، ولابد من عملية تحرير منه وانعتاق!
ثم قدِّم على صفحات المجلات التي جمعت أصحاب الأقلام المأجورة، ممن لا يُعرف أصله من فصله ولا كوعه من بوعه، لأنه اعتاد أن يكون كحاطب ليل لا يفرق بين عصا وثعبان!. قدِّم واكتب وامنح القراء جرعة تخدير من تقديم مشاريع هوائية ضبابية، هلامية، رومانسية؛ قصور فوق البحر، ومدينة فاضلة تحت النهر، واستبات للبذور في الهواء، ونفخ في قربة مثقوبة، تستحيل أحلاماً تقصم الظهر، وتضيع العمر، وتسقِط الأولويات، كي يغدو العصر موصوفاً بعصر التفاهة وسفاسف الأمور!
ادع الأمة إلى أن تنسى ذاتها، وتلبس لباس المغلوب فتقلد غيرها، لتكون أمة مسخ، وطبخ ونفخ، يقال لها كما قال الحطيئة للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
إن كنت كذلك ستجد أبواب الصحف أمامك قد شرِعت، والمجلات بك احتفت، والفضائيات لك هرولت، والجوائز في انتظارك، فاسلك شتى المسالك، والتفت لما سيقال عنك بعد ذلك: فيلسوف العصر ومنوِّر الفكر ومنقذ الأمة من ركام التراث وتيه الرجعية وصحراء التخلف! إلى عنوان المعاصرة وطريق التقدمية وعمران التحضُّر والمدنية الحديثة!