فلسطين هي قضية إسلامية قبل أن تكون قضية قومية، لهذا القوميين العرب الذين يدافعون عن فلسطين من المنطلق القومي، هم يسيئون إلى هذه القضية أكثر مما يحسنون إليها، باعتمادهم هذا المنطلق الضيق، وهم بهذه النظرة والمبدأ القومي يعملون من حيث يدرون أو لا يدرون على إبعاد وإقصاء القوميات الإسلامية الأخرى التي تشكل السند القوي للقضية الفلسطينية.
يبعدون القوميات الإسلامية في آسيا وفي أفريقيا وفي الشرق الأوسط والوطن العربي، وهذا يخدم الصهاينة أكثر ما يخدم القضية الفلسطينية.
إذاً فلسطين هي وقف إسلامي بالدرجة الأولى، وهي ملك لكل المسلمين في جميع بقاع الأرض، والذي يربطنا كمسلمين بهذه الأرض المباركة المقدسة رباط إيماني عقدي تعبدي إسلامي مسيحي، هي جزء من عقيدتنا وديننا، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، أرض الإسراء والمعراج، أرض الأنبياء جميعا.
الإيمان بالرسل جزء من عقيدتنا، لهذا فهي من حيث القداسة ومن حيث الإيمان والعقيدة والدين الإسلامي هي توأم لأرض الحجاز، بحيث هناك رابطة إيمانية تعبدية وقدسية تجمع بين أرض فلسطين وأرض الحجاز، وهي الآصرة التي حرص أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام احياءها بتردده على الحجاز حيث اسماعيل وأمنا هاجر، وحيث بيت الله الحرام الذي بناه، ثم فلسطين حيث إسحاق وأمنا سارة والمسجد الأقصى الذي بناه إبراهيم عليه السلام، إذا هما توأمان شقيقان لا يحق التنازل عنهما ولا التمييز بينهما، فتحرير فلسطين أرض القدس هو تحرير الحجاز إذا اعتدي عليه؛ إذاً فما يربطنا بفلسطين أكبر وأقدس وأهم من الروابط القومية العربية.
من هذا المنطلق فالتَطبيع خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وللعُهدة العمرية، وخيانة للفلسطينيين الذين يموتون ويسْتشهدون دفاعا عن فلسطين لأزيد من قرن من الزمن.
فارق الأجيال وأثره على القضية الفلسطينية
للأسف، نحن أمام جيل من الشباب العربي الإسلامي، وأمام جيل جديد من حكام العرب، تراهن عليهم الصهيونية اليوم في طموحاتها التوسعية في الوطن العربي الإسلامي، جيل تم تهيئته وإعداده لهذه التنازلات القومية والدينية، جيل ارتباطه بالقضايا المصيرية للأمة ارتباط ضعيف وفاتر، جيل تربى على برامج التفاهة واللهو والمتعة الحسية الجسدية الشهوانية، بعيد عن القضايا العقدية الدينية القومية للأمة.
أجيال تم عزلها وفصلها عن القيم العليا للأمة، لا يعرفون عن تاريخ الأمة ورجالاتها أكثر ما يعرفون عن مايكل جاكسون وبْريسلي المغني، وميسي ورونالدو وغيرهم من نجوم اللهو والمتعة. وصدق عبد الرحمان ابن خلدون وهو يقول: "وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز.. ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم وغضارة العيش ويصيرون عيالا على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة، يموهون بها وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيَحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يأذن الله بِانقراضها فتذهب الدولة بما حملت." 1
فهذا الجيل الجديد من الشباب العربي الإسلامي تم تهجينه وتهجين قيمه وعقيدته حتى أصبح يجهل تاريخه وانتماءه القومي والديني، وهذا كله يخدم الصهيونية خاصة والمحتل عامة.
التطبيع في ظل غياب عقيدة التوحيد
فالتَطبيع بدأ عمليا بالتطبيع العقدي الأيديولوجي القيمي، عندما حلت الايديولوجيات والعقائد المادية العلمانية محل عقيدة التوحيد وشريعته، وأصبحنا نفسر تاريخنا واجتماعنا تفسير مادي علماني بعيد عن عقيدتنا وديننا، وأصبحنا نعتمد المفاهيم والمصطلحات والقيم التي يعتمدها عدونا وهو ما أدى الى تهجين ثقافتنا لصالح المحتل، وبالتالي تدجين وتهجين للشباب الذي لم تعد له غيرة على مقدسات الأمة.
فالتَطبيع اذًا هو هذا السم من الأفعى الصهيونية، التي تمكنت من الجسد العربي الإسلامي بعد لسعة وعضة اتفاقية كامب ديفيد، فمن خلال هذه اللسعة تم حقن الجسد العربي الإسلامي بسم التطبيع، هذا السم الذي واصل تفاعله التخريبي في جسد الأمة وواصل اضعاف مناعة هذا الجسم قصد إيصاله إلى منتهى الضعف والاستسلام للإرادة الصهيونية، هذا السم ومَفعوله التخريبي هو الذي أجبر منظمة التحرير الفلسطينية على الاستسلام وعلى التطبيع، وهو الذي أجبر كذلك الأردن على نفس الخطوة، وهو الذي أجبر اليوم الإمارات والبحرين على التطبيع، وهو الذي سيجبر لاحقا الباقية على التطبيع.
فالصَهيونية وشقيقتها الصليبية تعرفان كيف تغذي هذا السم داخل الجسد العربي الإسلامي ليبقى حيا فاعلا من خلال إيثار الخلافات المذهبية الدينية، والاثنية والخلافات السياسية والايديولوجية، وهما يعرفان طريقة الاخراج لهذه الخلافات بطرق فنية عالية تؤتي أكلها كل حين بإذن الصهيونية والصليبية. فالتطبيع هو إفراز لهذا السم الذي هزم الأمة نفسياً وحضاريا، ولن يتوقف هذا السم عن دوره التخريبي لجسد الأمة حتى يهلكها وينتهي منها كليا.
قراءة الواقع العربي في ظل التطبيع من منظور ابن خلدون
الواقع العربي الإسلامي المنهزم، المطبع اليوم مع العدو يكشف بهذه الهزيمة عن القراءة الخلدونية لهذا الواقع المنبطح خاصة من الممالك الخليجية، فالتَطبيع من هذه الممالك يعكس تلك الحالة النفسية الاجتماعية القيمية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته عن العرب، عندما تنتقل من حالة البداوة وخشونتها إلى حياة الحضارة وتَمدنها والانصهار في حياة الترف والدعة والمتعة. الممالك الخليجية انتقلت بسرعة من البداوة إلى التمدن مع طفرة النفط والغاز خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومع هذا الطفرة حدث تحول كذلك في السلوك والقيم،ن وهو سلوك فجائي لم يراعي دورة النمو والتطور الطبيعي، فاخذت هذه الممالك تنغمس في حياة البذخ والترف والمتعة من أموال البترول والغاز حتى فسد الطباع ولم تعد قادرة على حماية نفسها وملكها لكونها اعتادت نعيم الدنيا وترفه.
يقول ابن خلدون في هذا السياق: " إذا حصل لهم الملك اقصروا عن المتاعب التي يتَكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فَيبنون القصور ويجْرون المياه ويغرسون الرياض ويستمتعون بأحوال الدنيا ويؤثرون الراحة على المتاعب، ويتَأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا، ويأْلفون ذلك ويوَرثونه من بعدهم من أجْيالهم، ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يأذن الله بأمره."2
ويضيف في السياق نفسه: "أن طبيعة الملك تقتضي الدعة، وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلة شأن العوائد كلها واِيلافها، فتربى أجْيالهم الحادثة عن غضارة العيش، ومهاد الترف والدعة وينقلب خلق التوحش، وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس وتعوُدِ الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر ...فتضعف حمايتهم، ويذهب بأسهم وتنخَضد شوكتهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم، ثم لا يزالون يتلونون عوائد الترف، والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم، وينْغمسون فيها وهم في ذلك يبتعدون عن البداوة والخشونة، وينْسلخون عنها شيئا فشيئا وينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية والمدافعة، حتى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة، وربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة، فيتَخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله بأمره."
وهذا الوضع يذكرنا بوضع الأندلس في زمن ملوك الطوائف الذي ينطبق حاله على حالنا؛ فمُلوك الطوائف كما هو معروف أخذهم نعيم وترف الأندلس، وأنساهم قيم وأخلاق الفاتحين الأوائل، وصاروا مع نعيم الدنيا وزينتها و انغمسوا في اللهو والمجون، وحياة الدعة والترف وغفلوا عن عدوهم الصليبي الذي يتربص بهم، فكثر الفسق والفجور فيهم وتفرقوا وأصبح كل أمير بمملكته يتباهى ويتنافس عن غيره بالقصور والحدائق والبناء والمدح والثناء.
الإنشغال بالدنيا عن الدين يقود إلى المهالك
يقول الدكتور رشدي فكار رحمه الله: "لقد ضاع الإسلام في القلوب حينما كان التخلي عن مثله العليا ومبادئه الخالدة، فضاع الأندلس بضياعه.. لم يعبر الفاتحون إلى الجزيرة عبورا خاليا من الشذوذ والاستثناء، فإن كانت الغالبية عبرت بإيمانها وقناعتها مستبسلة وطالبة للاستشهاد، فهناك من عبر محمولا بعصبيته، محملا بشهواته وأطماعه وأهواءه، لم تكن ترى حينما يشتد غبار التلاحم بغية الانتصار، وتعلوا صيحات التكبير لتغطي على كل الصيحات، ولكن سرعان ما يتحرك أصحاب هذه الشهوات منقبين عن الغنائم مشبعين أطماعهم متغافلين وغافلين، ومنهم اللاهين والمتلاهين، وقطيع من المتعصبين النافرين، ولقد استيقظت فيهم رواسب كامنة لم تذب عبر الرحلة الطويلة فوق رمال صحراء الشمال الإفريقي ولم تنقيها مياه وديانة وسهوله أو تخفف من حدَتها فالتغَافل واللهو والتعَصب والعصبية ظواهر تختفي وتتكيف مع الأحداث، وهكذا ومن البداية طالعتنا هذه النماذج المختلفة مواكبة للفتوحات."
ويضيف الدكتور يصف لنا حالة اللهو والمجون في الأندلس الذي جعلهم غافلين عن عدوهم .قائلا: " وتجاوزت جلسات الضرب والمنادمة جلسات تسيير الحكم والاهتمام بشؤون الرعية. ملهاة تنفتح على ملهاة وتفاخر في هذا المضمار إلى حد أن إبراهيم بن الحجاج بعد أن تغلب على اشبيلية ووصل إلى مسامعه ما وصل عن جارية بغدادية اسمها قمر، فأرسل في طلبها الأموال لشرائها، أموال كان من الأولى أن تؤمن حياة رعيته وتخفف من حدة معاناة الضعيف منهم. ويطالعنا الحاجب عبد الرحمن بن المنصور كمثال آخر ممن تسلطت عليهم شهواتهم وقادتهم غرائزهم إلى حد الفسق الصريح، بل ذكر عن هذا الحاجب أنه حتى في غزواته كان يصطحب معه قرناء السوء والمنادمة.
مدن تحاصر، وصراعات مريرة مع الخصم المرتقب، وبلاطات تزهر بالمجون واللامبالاة، تلهو إلى حد المغالاة والافراط؛ فهذا المعتضد بن عباد والى المعتمد يغالي في لهوه وافتتانه بالدنيا حتى في سكرات الموت، مستدعيا لا نقول فقيها يرتل القرآن له، وإنما مغنيا يشدو إلى جانبه وهو على فراش الموت..وأمثلة كثيرة يمكن للمتتبع والقارئ لتراث الأندلس أن يسترسل في ذكرها.. ولم يقف مجون اللاهين واملتلاهين بهم عند هذا الحد، بل كان هناك من يمارس الشذوذ من منادمة الغلمان، بل وحتى في جلسات الحكم كما حدث لابن أبي بكر بن عمار وزير المعتمد ومغازلته الغلمان في حضرة المعتمد.
خبث الشذوذ في قرطبة وصل حد ممارسة المخنثين علانية لانحرافهم، وكان هناك ضرب ابن زيدون الذي يتمثل به في التعريض، فيقولون هو من ضرب ابن زيدون حيث غطت شهرة العهارة فيه حيزا ملفتا للنظر… لقد استيقظت الغرائز، ويقظت الشهوات يزكي بعضها بعضا، وقد كان طبيعيا لهذا الذي ترك غرائزه وشهواته تقوده بلا تقنين ولا معيارية أن ينعكس على ذاته، مبرزا لما فيها من نعرات وترسبات طفت مرة أخرى بعد أن احتواها الإسلام في مراحله المشرقة، وظهرت لتفجر وتنفجر، وتدَمِر وتُدَمَرْ، فهي كامنة للترسيب في الأعماق من الخطأ أن نرى مسيرة الأحداث بمعزل عنها، ومن البداية تعايشت منذ بداية الفتوحات، مرة تخمد وأخرى تشتعل حسب الظروف والمناسبات وما تمليه الوقائع والأحداث."
ويختم الدكتور كلامه بكلام المقري الذي ذكره في كتابه أزهار الرياض .يقول: "ومن استقرأ التوَاريخ المنصوصة وأخبار الملوك المقصوصة علم أن النصارى دمرهم الله وَلم يدركوا في المسلمين ثأْرا، ولم يدفعوا عن أنفسهم عارا، ولم يخربوا من الجزيرة منازلا وديارا، ولم يستولوا عليها بلادا جماعة وأمصَارا، إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف."4
هكذا عندما تتغير العقائد تتغير القيم، فعندما دخل حب الدنيا وزينتها القلوب تغيرت القيم، وأصبح العدو متمكن فينا.
وصدق الله العظيم وهو يقول: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [ سورة التوبة الآية: 24].
هكذا تكون العقائد والايديولوجيات العلمانية المادية قد أَفرغتنا من محتوانا القيمي مما تسبب في هزيمتنا النفسية والحضارية، وسهل علينا التطبيع والاستسلام لغيرنا، وأصبح الوطن العربي الإسلامي مفتوح على الصَهينة، وفريسة سهلة للوحش الصهيوني الذي يعد نفسه للانقضاض علينا لإتمام مشروع إسرائيل الكبرى. وبالتالي نهاية الزمن العربي الإسلامي، لصالح الزمن الصهيوني اللعين.