"أجدني أتساءل في سرّي ما إذا كان نظام الواجبات والمواعيد النهائية سوف ينقذني الآن،مع أني أدرك طبعا أنّ مرضي يزحف زحفا على نحو غير منظور، وبسرية أكبر وغدر أعظم من سريان الوقت الذي كانت تعلنه ساعتي اليدوية الأولى، وقد حملتها وأنا غافل آنذاك عن حقيقة أنها ترقّم فنائيتي ترقيما، وتقسمها إلى فواصل تامة وغير متبدلة من المواقيت غير المتحققة إلى أبد الآبدين".
اقتباس من كتاب خارج المكان الذي يتحدث ويصف بحث الكاتب إدوارد سعيد عن هويته وانتمائه الحقيقيين. الكتاب عبارة عن مزج بين السيرة الذاتية والمذكرات، حيث اتبع الكاتب أسلوب الفلاش باك أو الرجوع بالأحداث إلى الخلف ليروي لنا قصته التي هي عبارة عن قصتنا جميعا في بحثنا الدائم نحو إيجاد انتمائنا وهويتنا الحقيقية.
كم نحتاج لقراءة هذا الكتاب الآن ونحن نعيش صراعات كثيرة بين التقدم المتسارع للتكنولوجيا وصراع إثبات الذات وسط منافسات وتحد كبير ضمن مجتمعاتنا المحلية والعالمية ونحن نعيش العولمة من جهة أخرى.
سأعود للكتاب مرة أخرى حيث السؤال الذي شغل بال الكاتب طويلا: ما الذي يحدد الانتماء والهوية للإنسان؟ اللغة أم الثقافة؟ الدين أم المكان؟ لقد تنقل إدوارد سعيد كثيرا منذ صغره وحتى أصبح في نهايات حياته، من فلسطين إلى لبنان، ومن مصر إلى الولايات المتحدة. لقد تعرض إلى ثقافات مختلفة وصداقات عديدة. هذه الثقافات اقترنت بلغات ولهجات عدة أيضا. لقد كان إدوارد يتكلم في بيته اللغة الإنجليزية والفرنسية وخصوصا مع والدته التي كان متعلقا ومتأثرا بها كثيرا. والعربية بين أفراد عائلته وأصدقائه. فهل اللغة هي العامل الوحيد على الانتماء؟
الآن وفي ظل العولمة والعالم الافتراضي والتعلم الإلكتروني نجد أنفسنا أمام تحدي اللغة التي تقربنا إلى ثقافات العالم، لذا أصبحت اللغة الإنجليزية جزءا من هذه الهوية. وكلما كان الشخص متمرسا وخبيرا بلغة عالمية كلما استطاع أن يجد فرصا كثيرة.
من اللغة إلى المكان عاش إدوارد هذا الصراع ولم يتمكن من كشف الجواب لبحثه حتى اللحظات الأخيرة من حياته وهو يصارع المرض الذي كان ضحيته أيضا أمه وأباه.
العادات والتقاليد في بلادنا العربية واحدة مما تقربنا لإيجاد هويتنا. فاللغة والمكان لا يحددان الهوية والانتماء فقط. ما الذي يحددانهما إذا؟ الاسم؟ العائلة؟
يقول إدوارد: "إن الهوية من نحن؟ من أين جئنا؟ ما نحن؟ فالهوية بأبسط تعريفاتها هي مجموعة من الصفات الشخصية الموروثة في شخصية كل فرد منا، هذه الصفات تعتبر سمات مميزة لكل فرد عن الآخر".
مجموعة عوامل بالإضافة إلى تجاربنا الشخصية هو ما يحدد هوية الشخص وانتمائه، وأي عامل آخر هو مساعد فقط لاكتشاف ماذا نريد فعلا. فالبحث يبدأ معنا من المجتمع الصغير وهو العائلة والأحداث التي نعيشها معا. فابحث عن مكانك بداخلك وليس خارجك. فالبحث خارج المكان ولكن الهوية داخل المكان-بداخلك.